ما زلنا، وقت كتابة هذه السطور، في ساعات مبكرة من نشر حوار جريدة "الأنباء" الكويتية، مع الرئيس مبارك، لكن أصداءه مع ذلك، تحسب لصالحه، وهو أمر لا يزعجني البتة، رغم أنني لم أعتقد بعد الثورة أن يأتي عاقل رشيد يترحم على عهد مبارك، لكن أين هي الثورة؟!
بداية، وبمعايير مهنية خالصة، يمثل هذا الحوار "خبطة" للصحيفة "الأنباء" وللصحفية التي أجرته، "فجر السعيد"، وهي من مؤيدي مبارك، وأقرب إلى مجموعة "احنا آسفين ياريس"، التي كانت تقودها صحفية مصرية، هي "سامية زين العابدين"، زوجة عميد الجيش الراحل "عادل رجائي"، وإن كانت "المصرية" توقفت عن تأييد مبارك وانحازت بالكلية لعبد الفتاح السيسي، ولم تعد تذكر مبارك وعهده على طرف لسانها. وباعتبار الحي أولى بالحب من الميت، والحالي أولى بالتأييد من المعزول، فإن الكويتية لا تزال على العهد، وربما تكون بالتاييد الفج تعبر عن كويتيين لا ينسون لمبارك موقفه بعد غزو الكويت، وإن عبّرت عن ذلك بأداء شعبي يلحقها عند التصنيف بفرقة "احنا آسفين يا ريس"!
وهو ما صار شعار البعض الآن، وقد عبروا عن ذلك بالحفاوة بما قاله مبارك في مقابلته مع "فجر السعيد"، وفازت به جريدة "الأنباء"، التي لا نعرف إن كانت المذكورة من ضمن طاقمها التحريري، أم أنها استغلت علاقتها بالرئيس المخلوع، وباعتبارها زارته أكثر من مرة في إجراء الحوار. ولا نعرف إن كانت صحفية محترفة، أم هاوية، ولا نعرف إن كانت لها مهنة أخرى، أم أنها "ست بيت". وفي شبابنا كان يدهشنا أن يُعرف كاتب خليجي نفسه بأنه محام، وصحفي مثلاً، أو أنه صحفي ورجل أعمال، ذلك بأن الصحافة مهنة لا تقبل الجمع مع مهنة أخرى، وهذا أحد أركانها؛ يتساوى في ذلك القانون الفرنسي مع القانون المصري!
لا بأس، فلست متأكداً من أن هذا الدمج قائم إلى الآن. ومهما يكن، فقد فازت "فجر السعيد" بالمقابلة، والتي أظن أنها ظلت فترة طويلة تطلبها، إلى أن حصلت على موافقة مبارك. فالرجل عاد سيرته الأولى، ليس مشغولاً بشيء، ويبعد بقدر الإمكان عن "وجع الدماغ". ولا شك في أن هذه كانت طبيعته في الحكم، التي جمدت البلاد لثلاثين سنة، وقد قضى العشرين سنة الأخيرة يعيش في منتجع بشرم الشيخ، بعيداً عن القصر الرئاسي، شعاره "كبر دماغك"!
هل كان إجراء الحديث يحتاج فقط إلى موافقة مبارك؟ ويبدو أن بينه وبين السيسي وداً مفقوداً، وفقد المعزول حماسه له، بعد حكم إدانته ونجليه في قضية القصور الرئاسية
الموافقة على الحوار:
فهل كان إجراء الحديث يحتاج فقط إلى موافقة مبارك؟ ويبدو أن بينه وبين السيسي وداً مفقوداً، وفقد المعزول حماسه له، بعد حكم إدانته ونجليه في
قضية القصور الرئاسية، ووصمهم بحكم قضائي بأنهم لصوص، وهو أمر لم ينسحب على أحد من أركان حكمه، بمن في ذلك
وزير داخليته حبيب العادلي، الذي نهب المليارات بحسب ما جاء في تقرير جهاز الكسب غير المشروع!
ويمكن أن تلمس هذا الود المفقود في تصريحات لمبارك في الأونة الأخيرة.. في صفقة القرن، وفي تيران وصنافير، أيضاً عندما استدعته المحكمة شاهداً في محاكمة الرئيس محمد مرسي، فأخذ المحكمة بعيداً، في قضايا بالأصل أنها ليست موضوع المحاكمة، ويعلن للقاضي حاجته لإذن للحديث فيها، وهو على يقين بأن إذنا لن يمنح له، وبالتالي كان الإيحاء بأن هناك أسراراً ليس مسموحاً بالكلام فيها؛ لأنها تمثل حرجاً للسلطة القائمة، وبما قاله هو إنها خاصة بالأمن القومي المصري، فما علاقة الأنفاق وغيرها بموضوع الدعوى؟!
لا تنسى كذلك أن النظام فرض صمتاً على نجل مبارك الأصغر، وحدّ من حركته، وكان التهديد الذي نقله اليه "كليم السيسي" الصحفي "ياسر رزق" حاداً وواضحاً. ورغم أن هذا الصحفي كان محسوباً على زمن جمال مبارك، ومع ذلك أهانه وهو ينقل له رسالة التوقف عن الظهور المتكرر في الأوساط الشعبية!
السيسي لا ينزل مبارك منزلة المشير محمد حسين طنطاوي. وللدقة، فإنها نفس العلاقة التي كانت تربط مبارك بعد توليه الحكم بأسرة الرئيس السادات
القلوب ليست صافية، والسيسي لا ينزل مبارك منزلة المشير محمد حسين طنطاوي. وللدقة، فإنها نفس العلاقة التي كانت تربط مبارك بعد توليه الحكم بأسرة الرئيس السادات، حيث الود المفقود، وكما عبر عنها لي ابن شقيق السادات المرحوم طلعت عصمت السادات، بأن مبارك يكره كل من فيه من رائحة السادات، وإن بدأت العلاقة في التحسن مع "طلعت" بالذات بعد فترة سجنه، وفي آخر عامين من عهده بالسلطة!
ورغم الود المفقود، فإن مبارك غضب كثيراً، عندما تناولت إحدى الصحف الحزبية في مصر السيدة جيهان السادات بشكل سلبي. ومن الواضح أن غضبه لم يكن لحظياً فقط، ولكن امتد لأيام، ليكشف عن سر هذا التحول، عندما قال إن من يهاجم جيهان اليوم، سيهاجم سوزان غداً!
ومهما يكن، فظني أن "فجر السعيد" حصلت على موافقة من أهل الحكم على المقابلة الصحفية، أو على الأقل حصلت على "عدم ممانعة" لإجراء الحوار!
"الكلام لكي يا جارة":
وقد استقبل الناس مبكراً ما قاله بقبول حسن، وذلك من تعليقاتهم عبر السوشيال ميديا. وليس في هذا مفاجأة، فكلما قسى الحال على المصريين، تحسروا على زمن أبو علاء. ورغم أنني لم أتوقع هذا بعد الثورة، إلا أنني توقعته بعد الانقلاب العسكري، وليس في الأمر ما يقلق الثورة والمشاركين فيها، بقدر ما ينبغي أن يقلق من يحكمون الآن. فالسيسي وسياساته وراء ترحم الناس على مبارك وعهده، فلا يعرف قيمة أمه إلا من يتعامل مع زوجة أبيه!
أكبر البعض في مبارك أنه رفض التفريط في التراب الوطني، فعندما عرض عليه نتنياهو تسكين الفلسطينيين في سيناء، قال له إن الأرض كالعرض، وإن هذا قد يتسبب في اندلاع الحرب مجدداً بين المصريين والاسرائيليين!
السيسي وسياساته وراء ترحم الناس على مبارك وعهده، فلا يعرف قيمة أمه إلا من يتعامل مع زوجة أبيه
"الأرض مثل العرض" هذه مقولة مصرية متوارثة، يقولها قائد الجيش، ويقولها رئيس الدولة، ويرددها الفلاح المصري القديم، وعندما يكررها مبارك فلم يخترع الايمان بالتراب الوطني، ولم يصك هذه العبارة الدالة على قيمة الأرض، ولكن المشكلة في التوقيت، فقد قيلت الآن بعد التفريط في التراب الوطني؛ بالتنازل عن تيران وصنافير، وبعد التنازل عن أرض أخرى لصالح ولي العهد السعودي لإقامة مشروع سياحي عليها.
وكما يقول المثل المصري "الكلام لك يا جارة"، وليست الجارة هي الثورة، فقد وقع الانقلاب عليها، والثورة لم تفرط، بل حافظت على الكرامة الوطنية، وكان شعارها الأثير: "ارفع رأسك فوق أنت مصري"، وهو الشعار الذي فقد معناه الآن أمام هذا الانبطاح، حيث تعيش مصر على القروض، وترقص للمساعدات، ويعد الخبر الأبرز في كل صباح هو موافقة عبد الفتاح السيسي على قرض جديد!
فقد الشعار معناه، والناس في بلدي يعيشون في فقر مدقع، في وقت تبدد فيه الأموال في الصحراء لبناء معسكر عزلة للنظام بعيداً عن الشعب، في ما يسمى بالعاصمة الإدارية الجديدة، وفي تشييد كوبري، دون دراسة جدوى، ولا نعرف جداوه الاقتصادية، فقط أنه أعرض كوبري في العالم، كما أن هناك أكبر مسجد وأكبر كنيسة وأعلى مئذنة في العالم، مع انهيار اقتصادي، لا توجد ثمة أمل في تجاوزه!
شراء الشرعية:
عندما رفض مبارك التفريط في التراب الوطني، لم يكن بحاجة إلى هذا التفريط، فقد كانت شرعيته هي شرعية الأمر الواقع. فبعد وفاة عبد الناصر تولى نائبه الحكم، وبعد اغتيال السادات تمت ترقية نائبه. صحيح أن هذه الشرعية كانت قد بدأت في التآكل مع الألفية الجديدة، لكنه لم يشعر بذلك، كما أن أي تفريط لم يكن سيعيدها من جديد، فقد سقط في وقت كانت إسرائيل تقول إنه كنزها الاستراتيجي!
ما قاله مبارك "الأرض كالعرض" على بداهته، له قيمة مهمة، وكأنه اختراع؛ لأن المقارنة تمت مع سياسات عبد الفتاح السيسي
لكن السيسي جاء بانقلاب عسكري، فهو يفتقد للشرعية من أول يوم، ولفقده الأمل تماماً في أن يتحصل عليها بارادة الشعب، لذا فإنه يشتريها من الخارج، فيفرط في ماء النيل من أجلها لقبول الاتحاد الأفريقي له، أيضاً خدمة لإسرائيل، ويبيع تيران وصنافير لتعزيز مكانة ولي الأمر السعودي، ولصالح الأمن القومي الإسرائيلي، ويسلم القرار المصري لحاكم أبو ظبي، بمقابل الرز الذي دُفع له، أيضاً تقرباً لواشنطن ولإسرائيل بالنوافل، باعتبار محمد بن زايد هو وكيل الاستعمار في المنطقة. ويمكن له من أجل شرعيته أن يفرط في سيناء أيضاً.
وفي أجواء التفريط هذه، فإن ما قاله مبارك "الأرض كالعرض" على بداهته، له قيمة مهمة، وكأنه اختراع؛ لأن المقارنة تمت مع سياسات عبد الفتاح السيسي، ليصبح مبارك (والحال كذلك) فرخة بكشك. ويقول البعض ربما من باب الانفعال الناتج عن المقارنة، ولا يوم من أيامك يا علاء. فلا يعرف قيمة أمه إلا من يتعامل مع زوجة أبيه.
ومهما يكن، فالترحم على مبارك وزمانه، والترحيب بحديثه وكلامه، ليس خصماً من الثورة، ولكنه إدانة للحكم الذي فرط في التراب الوطني، وضيّق على الناس في أرزاقهم.
صباح الخير با أبو علاء.