يا ليلة العيد.. وذكريات الزمن (الجميل؟!)

كانت العائلة جميعها تجلس أمام "التلفزيون" بانتظار ثبوت عيد الفطر السعيد، حيث لا يمكن أن يثبت إلا بظهور قاضي القضاة الأردني "المزمن" أحمد هليل لإعلان العيد، يليه مباشرة صوت أم كلثوم "يلعلع" برائعتها "يا ليلة العيد".

وفي "الرمضانات" الحارة كان لانتظار العيد طعم آخر، وكانت غالبية الناس تتمنى أن يكون يوم 29 هو المكمل لرمضان المبارك، ولكن هذه الأمنيات تبقى "مكتومة" احتراما لحرمة الشهر، وقبولا وتسليما بخطب شيوخ المساجد الذين يخطبون بنص متشابه "دون ترتيب!" بقول مأثور -اكتشفنا بعد ظهور غوغل أنه ليس حديثا شريفا- عن دعاء الصحابة ستة أشهر أن يبلغهم الله رمضان، وستة أشهر أن يتقبل منهم صيامه.

وبعد هذه السنوات الطويلة، أعترف أنني كنت من هذه الأغلبية التي تكتم رغبتها بأن ينطق قاضي القضاة "الجوهرة" ويعلن عن ثبوت العيد، فمعدتي الصغيرة لا تحتمل!

كان التلفزيون الأردني هو القناة الوحيدة في تلك الإيام، فلا قنوات فضائية ولا انترنت ولا ما يحزنون، ولم نكن ننشغل كثيرا بإعلان السعودية أو هذه الدولة أو تلك عن ثبوت هلال شوال، فالعالم صغير، بحجم ما يأتي به التلفزيون الأردني، والهلال الذي نعرفه هو هلال "أحمد هليل". كانت الحياة بسيطة، لدرجة أننا لم نكن نعرف أن إعلان العيد في بعض بلاد العرب ليس له علاقة بالفلك أو الرؤية، وأنه مجرد انعكاس للسياسة والخلافات العربية، التي بدلا من أن تتراجع مع الوقت فإنها تزداد "بركة" ولا حول ولا قوة إلا بالله.

وبمجرد بث أغنية "يا ليلة العيد" تبدأ الطقوس المرتبطة بهذا اليوم السعيد، وكانت بدايتها ما يبثه التلفزيون الأردني وربما تلفزيونات العرب الأخرى التي لا نشاهدها، من تهان وتبريكات، مع باقات بدائية من الورود قبل ظهور عصر الجرافيكس الجميل!

ليلة العيد

هذا الإعلان الديني وما يتبعه من احتفالات "تلفزية" يتبعه طقوس سنوية، تتكرر كل سنة، ابتداء من تذكر شراء الحلويات "الرخيصة" مثل "ناشد إخوان" و "السلفانة" والمكسرات، والانتباه أننا اشترينا بنطال العيد ولكننا نسينا القميص لأحد الأبناء، أو أن بنطال هذا الشاب أو ذاك يحتاج لتقصير عند الخياط، أو أن "عدة" القهوة السادة من بن وحب الهيل والفناجيل والدلات الأنيقة لم تكتمل بعد، فيبدأ "النفير الوطني العام" لتقليل الخسائر، ولشراء ما يمكن شراؤه لإكمال الاحتياجات الكاملة، وكأن معظم الناس لم يكونوا يعلمون أن العيد سيأتي غدا أو بعد غد!

وبقدر انشغال الجميع في هذا "النفير"، من محلات حلويات ومكسرات، ومعارض الألبسة، وحوانيت البن ولوازم القهوة، والخياطين، والوقوف الطويل بانتظار الباصات العمومية، وزيادة الاختناقات المرورية، التي لا يشتكي منها أحد برغم سوئها، لأن الجميع على ما يبدو يدرك أنه شريك بصناعتها، فإنها لا تخلو من جمال صبياني بالتسكع في ليلة العيد مع ما يصاحبها من الحياة الرائعة بتفاصيلها الصغيرة في ازدحام الناس بشوارع السوق التي تمنع السيارات من دخولها في هذه الليلة، وأهمها وأجملها شارع السعادة في الزرقاء، وشارع هاشم، وشارع بغداد حيث يجلس الخياط المكافح الذي "يكيف" لنا البنطلونات الواسعة بعشرة قروش.

في شارع السعادة، كان لا بد أن نلتقي في تلك الليلة بالصدفة بصديق من المدرسة أو الحارة، بينما يتمشى الكثيرون بعد شراء حاجياتهم، ويقضون ليلتهم بين شرب فنجان قهوة رديئة من بائع متجول، أو كاسة من التمر هندي المصنوع على عجل لهذه المناسبة، وما يتخللها من استراق النظر من المراهقين على الصبايا اللواتي صدف وجودهن في السوق! إضافة لتذوق حبات الحلويات عند المحل قبل شرائها، وكم كان محل حلويات أمية في الزرقاء علامة فارقة عند افتتاحه منتصف التسعينيات، حيث عرفنا أن هناك حلويات غير تلك التي نشتريها من محلات كنافة القاضي!
أما الزحام عند محلات الحلاقين فحدث عنها ولا حرج، ولا أدري حتى الآن لماذا كنا نصر على تأجيل "الحلاقة" لليلة العيد، وكأن عندنا تفتيش إداري لإثبات أن الحلاقة جديدة.

ولا تكاد هذه الليلة المزدحمة أن تنتهي قبل طلوع الفجر، حتى يعلن أصحاب المحلات والدكاكين والخياطين استسلامهم للنعاس اللذيذ، لتنتهي ليلتنا بالنوم المتقلب انتظارا لشمس يوم العيد، وبوضع "البنطلون" الجديد تحت المخدة، أما حذاء العيد فمكانه بجانب "الفرشة"، سواء كان حذاء صينيا جديدا، أو واحد من تلك التي كنا نشتريها من سوق "السكة" أو سوق "الدقم" للأحذية القديمة، أو البالة!

يوم العيد.. كسله وجماله وأشياء أخرى!

ليلة العيد بازدحامها وفوضاها وسهرها الطويل، كانت تقود دائما إلى صباح عيد مضطرب، كسول، يملؤه النعاس والتثاؤب والتعب والمناوشات التي لا تهدئ منها أجواء العيد. يبدأ اليوم في الغالب بعدة "غارات" من الأم والأب لإيقاظ الأبناء النائمين لأداء صلاة العيد، يتخلل هذه الغارات استعدادات الوالد وأحيانا الأم للخروج للصلاة من لبس ووضوء، ورحم الله أمي العظيمة التي كانت قبل الصلاة بقليل تصر أن تعود لإكمال "مهمتها المقدسة" في إيقاظنا من النوم، بما يتيسر لها من أدوات ناعمة وخشنة، لا داعي الآن لذكرها.
مع اقتراب موعد الصلاة يبدأ اليأس بالتسلل للوالدين، فيتوجهوا للمصلى ويتركوا مهمة إيقاظ الأبناء، الذين يستمر بعضهم بالنوم، ويصحو آخرون، فيما يصبح شعار الأب "مؤقتا على الأقل"، يصحوا ولا عمرهم ما يصحوا!

لا تكاد تخلو عائلة من مظاهر التفلت من قبل بعض الأبناء من أداء مهمات صبيحة العيد، بعضهم يؤدي الصلاة ويعود للنوم متجاوزا دوره "الإجباري" بزيارة الأقارب والأحبة أحياء وأمواتا، وبعضهم يبدأ يومه عند ساعات الظهر، ولا يحصل أن تجتمع عائلة كاملة العدد على أي من مهام يوم العيد، حتى الفطور الأول بعد رمضان، سواء كان من حمص وفلافل "أبو صطيف" أو من "المعلاق" (وهو مجموع ما في أحشاء الخروف مقليا بالزيت والبهارات والفلفل)  أو "القلاية" (لحم مفروم مع بندورة تقلى بالزيت) لا يخل ممن يغيب عنه رغم جماله والاشتياق له بعد صوم أيام رمضان المبارك.

بعد الصلاة يصعد الخطيب للمنصة، وإذا كان ممن أعطاهم الله نفسا طويلا في الخطابة، يبدأ الناس بالتفلت من الاستماع، والانسحاب بالتدريج مع همهمات السلام والمعايدة، ليضطر لقول عبارته الشهيرة "لا أريد أن أطيل عليكم" بعد أن ييأس من استماع الناس بعد استخدام كل مهاراته في دعوة الناس للاستماع دون جدوى، بينما ينشغل الأصدقاء (ولا أبرئ نفسي) بالغيبة والهمهمة لأن الخطيب أطال في خطبته، أو لأنه لم يتحدث عن "أحوال الأمة" وفلسطين.

زيارة المقابر هي الطقس الذي يلي صلاة العيد مباشرة، حيث يزور الشخص قبور أقاربه وأحبائه الموتى، وتقدم هذه الزيارة بالأولوية على زيارة الأرحام من الأحياء، ولا أعلم أصل هذه العادة ومصدرها وجذورها التاريخية، خصوصا أن لا أصل دينيا لتخصيص يوم العيد بزيارة المقابر، غير أنها عادة لا تخص بلدا عربيا دون آخر، بل هي دارجة في كثير من الدول العربية. هذه الزيارة تكون عادة سببا أساسيا في الزحام عند المناطق القريبة من المقابر، ولا أدري لماذا يخصص الناس هذا اليوم لزيارة الموتى مع أن المفترض فيه أن يكون يوما للفرح، وكأننا نحب أن "ننكد" على أنفسنا، في حين يمكننا زيارة أمواتنا في أي يوم والدعاء لهم في أي لحظة صفاء.

ثمة مظاهر أخرى مضحكة مبكية في العيد، منها تحول هذا اليوم الذي يفترض أنه للفرح ليوم من الهموم عند الفقراء، بسبب تكاليف شراء الملابس للأطفال، والحلويات للضيافة، إضافة "لمجزرة" العيديات، التي ترهق قليلي الإمكانيات، ولنا أن نتخيل حجم هذا الإرهاق في عائلات يتجاوز عدد أبنائها 8 أو 10 أو يزيد مثل عائلتنا الكريمة، ومثلهم ربما من الأحفاد، على أن العيدية رغم ضغطها على الآباء والأعمام والأخوال إلا أنها تبقى ذروة البهجة للأطفال في العيد، فأعان الله الفقراء على تحمل كلفة إسعاد أبنائهم وأحفادهم في هذا اليوم!

على أن الحالة الأكثر شيوعا في يوم العيد الأول، هي "الضيافة الإجبارية" بما تسببه من أهوال وآلام وتلبك معوي، وزحمة على "بيت الراحة"، أراحكم الله وأراحنا! إذ يعتقد معظم الناس أن غاية الكرم هي "إجبار" الضيف الذي جاء ليقوم بواجب المعايدة على شرب القهوة وتناول الحلويات، وبرغم "حلفانه" للأيمان المغلظة بأنه للتو تناول نفس القهوة ونفس "المعمول" والكعك، إلا أن المضيف يبادله "أيمانا بأيمان" ليجبره على أكل ما لذ وطاب، ليصبح البطن بعد عدة زيارات للمعايدة مستودعا "لأسلحة الدمار الشامل" من السكريات والحلويات والقهوة والعصائر.. وربنا يستر الجميع! و"الأجمل" من هذا، أن البعض يغلظ الأيمان على الضيف ليملأ جيبه بعدة قطع من الحلويات مصحوبة بعبارة "عشان الأولاد"!

بهجة العيد بين "مرجيحة أبو العبد" و"الآيباد"

 
إذا كان العيد للكبار فرحا بإتمام عبادة الصيام، وبمشاعر العيد من صلاة ودعاء وتكبير وصلة للأرحام، فإنه بالنسبة للأطفال يوما للبهجة والفرح والانبساط. فالعيد هو يوم التمرد على قوانين الكبار، وتناول القدر الأكبر من الحلويات، والحصول على العيديات التي تذهب غالبا لشراء ألعاب رخيصة رديئة سرعان ما تخرب بعيد أيام من العيد.

ولكن البهجة الأكبر في زماننا في ثمانينيات القرن الماضي وتسعينياته كانت "بالملاهي" وهي مدن الألعاب. يذهب الأطفال الأكثر حظا والأكثر جمعا للعيديات إلى مدن الألعاب المزدحمة، قليلة الكفاءة، قليلة التنظيم ليصرفوا ما حصلوا عليه من عيديات فيها، مع ما يرافقها من شرب للعصائر و"الكولا" التي لا تتوفر للأطفال دائما بسبب بؤس الأوضاع المعيشية.

كان الوصول إلى ملاهي "النزهة" في الزرقاء حلما بعيد المنال لي، وأظن أنني وصلتها مرة أو مرتين، والحمد لله على أي حال، فقد اكتشفت كبيرا أن مدن الملاهي هي المكان الوحيد الذي تدفع فيه حتى "تتبهدل" وتنفصل عظام ظهرك عن مفاصلها، وتصاب بهلع لا يجدي معه سوي "طاسة الرعبة"!

وكنا نستعيض عن مدن الملاهي بـ"مدن ألعابنا الخاصة"، أو مدينة "أبو العبد" للملاهي، وهي عبارة عن "مرجيحة" ينصبها أبو العبد أمام ساحة البيت، يلعب بها الأطفال لأوقات محددة بمبالغ زهيدة، ولا عزاء لمدن ملاهي ولعالم ديزني، فالطفل الذي يتمرجح لخمس دقائق يعتقد أنه يملك الكون، وينسى عندها ديزني وأبو ديزني الذي سمع عنه بالتلفزيون! وقد علمت فيما بعد أن الناس في عدة مدن عربية يخصصون ساحات لهذا الغرض، ينصبون فيها المراجيح المؤقتة، ويبيعون ما لذ وطاب من العصائر والشاي والترمس والمكسرات.

وبالطبع لم تكن رفاهية الألعاب الإلكترونية "بلاي ستيشن" متوفرة للجميع، بل هي متوفرة لعدد قليل جدا من الأطفال، كما لم يكن الآيباد وإخوانه من أدوات المتعة الإلكترونية "المصنعة" موجودة.. والحال هذه، كانت مرجيحة أبو العبد سيدة الموقف، وغاية الأمنيات.

نهاية العيد.. والأيام "القومية" للكسل!

مع نهاية اليوم الأول ينتهي العيد فعليا، فالأطفال "يوسخون" ملابسهم الجديدة نتيجة لما يعلق بها من حلويات العيد والعصائر، ومن الرمل أثناء السقوط أو التدافع على "المراجيح"، والأهم أن ما جمعوه من عيديات ينتهي باليوم الأول، فيعيشون باقي أيام العيد على أطلال الفرحة الصغيرة المختصرة التي عاشوها ليوم واحد، ويكتفون بالتمتع بالعطلة باللعب العادي المجاني في الحارة.
أما الكبار، فتنتهي واجباتهم الدينية والاجتماعية عادة باليوم الأول، ليتنعموا باليوم الثاني بنوم دون منغصات، سوى إزعاج "طوشات" الأطفال و"زوامير" سيارة الغاز التي يأبى صاحبها أن يعتقهم لوجه الله ليوم واحد!

ومع ظهيرة اليوم الثاني يعلن المواطنون انطلاق "الأيام القومية للكسل"، حيث الجلوس الطويل أمام التلفزيون الوحيد المتاح، وحضور مسرحيات تعاد في كل عيد.. مدرسة المشاغبين، شاهد ما شافش حاجة، رية وسكينة، وغيرها.. وكم سيكون الناس محظوظين لو أضيفت للقائمة "كاسك يا وطن"، أو "باي باي لندن" للراحل الجميل عبد الحسين عبد الرضا!

أما أشرطة الفيديو لأفلام عادل إمام فقد كانت حلما بعيد المنال للغالبية من الناس الذين لا يملكون أجهزة تشغيل الفيديو، فيما تتكرر مشاهد كوميديا "فيلم ثقافي" عند الشباب الأكثر مغامرة لاستئجار فيلم أو فيلمين من أفلام إمام ومشاهدته بعد رحلة طويلة في تأمين جهاز ومكان للمشاهدة عند أحد أصحابهم ميسوري الحال، مع ما يتخلل هذه المغامرة من "اقتحام" غرفة المشاهدة من طفل هارب من "شبشب" ضربه عليه أخوه الأكبر، أو دخول غاضب للأب الذي يعتبر مشاهدة الأفلام، باستثناء فيلم "الرسالة" عملا شائنا يدنس حرمة البيت!

أما الأكثر جرأة من شباب ذلك الزمان، فقد كانوا يجمعون بعض القروش لشراء تذكرة سينما، لحضور مجموعة أفلام هندية ومصرية، في قاعات بائسة، يأنف الكثيرون من دخولها بسبب قلة جودتها، وأجوائها غير المريحة، فيما يكتفي البعض بالتجول أمام بوابات سينما الحمرا أو سينما سلوى ليسترق النظر لصور الفنانات التي تبيعها البسطات، يتفحصون صور ميرفت أمين ونجلاء فتحي ونادية الجندي، لكن بالطبع دون أن يشتروها، وشعارهم: "الريحة ولا العدم"!