لو كنت من الملايين التي تابعت مسلسل "شتاء 2016"، الذي عرض على شاشة قناة مكملين الفضائية في رمضان، فهذا المقال يعبر عن مشاعرك على مدار حلقات المسلسل، ولو كنت ممن لم يحالفهم الحظ بعد ولم تشاهد
"شتاء 2016"، فلا تقلق، فقط راقب من حولك واسترجع ذكرياتك في السنوات الست الماضية، لتجد أن "شتاء 2016" قد مر على قصتك بشكل أو بآخر، وعبر عن قصص من حولك من أصدقاء ومعارف.
صناعة
الدراما في عالمنا العربي ليست بالأمر اليسير، وقرار الدخول في هذه المنافسة، وتحديدا في شهر رمضان، مع ما تشهده الساحة من
احتكار أجهزة المخابرات ومؤسسات الدولة لهذه الصناعة الهامة، ومع
تدني محتوى المسلسلات المعروضة هذا العام، وظهور بصمة الشؤون المعنوية جليا على كتابة السيناريو واختيار نجوم بعينهم وحجب نجوم آخرين؛ هو قرار صعب وأشبه بالانتحار. ولكن وعلى الرغم من كل هذه التحديات، كان قرار صناع مسلسل "شتاء 2016"
بالدخول لساحة المنافسة الدرامية قرارا جريئا يستحق الإشادة، ولكن لماذا؟
صحيفة الإندبندنت البريطانية نشرت تقريرا يتحدث عن فضيحة مدوية للدراما
المصرية، حيث أشارت الصحيفة إلى مسلسل "
ولد الغلابة"، والذي يقوم ببطولته الفنان أحمد السقا. واتهمت الصحيفة صنّاع المسلسل بسرقة الفكرة والمحتوى، وحتى بعض المشاهد وصور الدعايات الخاصة بالمسلسل؛ من المسلسل العالمي الشهير "بريكينج باد". وتداول نشطاء مواقع التواصل الاجتماعي هذه الفضيحة بسخرية كبيرة وغضب شديد؛ تجاه صناع الدراما في مصر.
بالعودة إلى "شتاء 2016"، فلم يسرق صناعه الفكرة من مسلسل آخر، ولم يخضع كتاب السيناريو لتعليمات
ضباط الشؤون المعنوية، ولكنهم نجحوا في تقديم صورة حقيقية لقصص وحكايات لامست واقع آلاف البيوت والأسر المصرية، من آلام وآمال وأحلام، عبّروا عنها في رحلتهم للمجهول، ولامسوها في حواراتهم الجانبية داخل صندوق السيارة الضيّق الذي جمعهم عبر الطريق.
لست من صناع الدراما، ولست ناقدا فنيا كي أقيّم العمل من هذه الزاوية، ولكن كمشاهد وصحفي مر بتجربة الهروب من الوطن، ثم أجبرته الظروف على خوض تجربة اللجوء السياسي، ومثلي آلاف. فقد عكس المسلسل على مدار حلقاته الثلاثين جانبا كبيرا مما شعرنا، ولا زلنا نشعر به من إيمان بالثورة وتمسكنا بالحلم، ثم خلافنا واختلافنا الذي سمح للعسكر والنظام أن يبطش بنا جميعا، ثم صعوبات الحياة ومخاطرها عندما تصبح مطاردا داخل بلدك، ثم اتخاذك القرار الأصعب في حياتك بالهروب والتضحية بكل شيء من خلفك من زوجة وأطفال وعائلة وعمل وحياة، والأهم من ذلك حياتك في وطنك.
"شتاء 2016" استطاع في كل تفصيلاته الصغيرة، بداية من أغنية الشارة الخاصة بالمسلسل للمبدعة رشا رزق، أن يوصل لي ولك وللآخرين رسالة مفادها هذا المسلسل يحكي عنك أنت، وهذه الأغنية كتبناها من أجلك، وهذا المشهد جسّدنا فيه حكايتك، وهذه اللقطة عبّرنا بها عن معاناتك، وهذا جانب كبير من نجاح العمل انعكس على مشاهداته التي جاوزت سبعة ملايين مشاهدة على مدار شهر رمضان، وأحدثت تفاعلا واسعا على مواقع التواصل الاجتماعي.
أن تصنع مسلسلا يحاكي الواقع ويلامس عقل وقلب المشاهد فهو نجاح كبير بالتأكيد، ولكن النجاح الأكبر أن يقترن الأمر برسائل وقيم حاول المسلسل أن يركز عليها. ففي إحدى الحلقات، يتحدث طبيب شاب ينتمي للإخوان المسلمين ووالده محكوم بالإعدام في قضية رابعة؛ عن حال المهرّب قائد السيارة "جورباتشوف" (والذي جسد دوره ببراعة الفنانُ القديرُ هشام عبد الحميد). يقول الطبيب: "الحقيقة إننا كلنا موصولون ببعض ولبعض".
وكانت الإشارة إلى المفارقة التي قدمها المسلسل حول شخصية المهرب الذي فقد ابنه الصغير في ثورة يناير؛ رسالة هامة حاول "شتاء 2016" أن يقدمها للمشاهد. فلو أنك جمعت أي مجموعة من الشعب المصري داخل هذه السيارة في رحلة كرحلة الهروب تلك، فستجد تقاطعات كبيرة ومدهشة بين أبطال الرحلة على اختلافاتهم وتناقضاتهم، ستندهش أن الظلم الواقع عليهم باختلاف مواقعهم هو أقوى رابط جمع بينهم فلا فارق بين شاب من الإخوان شارك في اعتصام رابعة ضد الشرطة والجيش، وبين ضابط في الشرطة ظلمته قياداته وقتلت زميله ثم أجبرته على الهروب. وستجد تشابهات كثيرة بين صحفية هربت من أجل أن تحمي طفلها وجنينها، وبين شاب سافر من أجل أن يحافظ على أمه وشقيقه، ولا فارق بين شاب يلقبوه بالشيخ؛ ظلمه ضابط شرطة ولفّق له قضية قتل، وبين مهرّب ومجرم ظلمته الأجهزة الأمنية التي يعمل لأجلها، وخططت لقتله واغتصاب بناته بعد استخدامه والانتهاء من خدماته.
قد يرى البعض أن قرار الهروب هو قرار خاطئ وإعلان للهزيمة أمام الظلم والقهر والبطش الأمني، وقد يأتي علينا وقت يقتلنا فيه الندم ويقلقنا السؤال الأزلي: هل أخطأنا بالخروج؟ شخصيا سألت نفسي هذا السؤال والطائرة تقلع بي من مطار القاهرة يوم هروبي من مصر، وأعرف مئات من الأصدقاء سألوا أنفسهم نفس السؤال قبل وأثناء وبعد عملية الهروب، ولكن المسلسل يقدم لك الإجابة على لسان رامي وهو أحد أبطال العمل: "الهروب هو فترة للتجهيز عشان العودة للوطن أو افادته بمجهودك مرة تانية، والهروب ممكن يكون هزيمة وقتية، لكنه أكيد هيكون فرصة لالتقاط الأنفاس".
المشهد الأكثر تأثيرا على المشاهدين كان وفاة الشاب حسني (الذي جسّد دوره الفنان صلاح عبد الله) أثناء الرحلة، ولكن ماذا عن الواقع الحقيقي؟ فكم حسني اتخذ قراره بالهروب ومات وحيدا في الصحراء، أو قتله حرس الحدود، أو مات في منفاه الإجباري؛ ولخّص أصدقاؤه قصة موته كما لخص الضابط عمر (والذي جسد شخصيته الفنان القدير هشام عبد الله) قصة موت الشاب حسني: "معجبوش الحال فسافر، وهو مسافر برده معجبوش الحال، فنزل وسابنا لحالنا وزود على حالنا فراقه".
فسلام على من حاولوا السفر، فرحلوا عنا في "شتاء 2016"، وفي كل شتاء نعيشه في واقعنا الحالي.