وجد الإنسان على الأرض، ووجدت معه الحاجة إلى التواصل مع الآخر، وكان
الإعلام أحد مظاهر هذا التواصل. وبمرور الزمن أصبح للإعلام دور أساسي في الحياة الاجتماعية والدينية والسياسية؛ فبه استقر الحكم لملوك وسلاطين، وعبره أزيح آخرون.
وقد عرفت
مصر الفرعونية الإعلام مبكرا؛ وإن لم يكن بالمسميات الحديثة، كما عرفت أنواعه وطرقه ووسائله. وخير دليل على ذلك هو الإرث الخبري الضخم الذي سجلوه على جدران المعابد والمقابر والمسلات وأوراق البردي، والذي أظهر لنا كيف كانت الحياة السياسية والاجتماعية والدينية والاقتصادية خلال تلك الحقبة من
تاريخ مصر.
وتنوعت طرق وأساليب الإعلام في مصر الفرعونية، فهو فضلا عن كونه كان محليا ودوليا، فقد تنوعت توجهاته ما بين رسمي، ومستقل ومعارض. والإعلام الرسمي؛ كان إعلاما مركزيا، تحكّم فيه الملك وقليل ممن حوله من الأمراء والنبلاء، الذين نقلوا للمواطنين ما أرادوا نقله من أوامر وأخبار. وقد ظهر ذلك واضحا من خلال النقوش الموجودة على جدران المعابد والمقابر والمسلات، والتي صنعوا من خلالها هالة كبرى على الملك وحاشيته، مما جعل الشعب ملتزم بما جاء عن الملك!
وهذا يدفعنا نحو القول بأن الإعلام الفرعوني قد استخدم الدين كسلاح أساسي من أسلحته، فقد كان المصري القديم متدينا بطبعه، ولذا فقد جاءت الرسالة الإعلامية من خلال الوسائل الدينية كالمعابد والمقابر، ما جعلها رسالة مقدسة لدى أبناء الشعب الذين استجابوا لها؛ اعتقادا منهم بأنهم يعملون بذلك على إرضاء الرب، وهي رسالة كانت في أغلبها عبارة عن أوامر وتعليمات تدفع المواطنين نحو الإذعان والخضوع للملك وللكهنة؛ الذين كان لهم دور بارز في التزام الشعب بما ينادي به الملوك. فقد كان بعض هؤلاء الكهنة يشبهون سدنة الحكم ورؤساء التحرير الآن الذين أصبح (معظمهم) أبواقا لأي حاكم؛ يتزلفون إليه ويتحدثون باسمه، حتى ولو جاء ذلك على غير ما كانوا يدّعون من قيم ومبادئ!
وبالرغم من القبضة الحديدية التي تسلطت على الإعلام في مصر الفرعونية من خلال الملك ورؤساء تحريره؛ إلا أنه قد ظهرت هناك أنواع أخرى من الإعلام، منها الإعلام المستقل والإعلام المعارض. فالإعلام المستقل ظهر واضحا من خلال النقوش التي وجدت في المقابر الخاصة بكبار القوم، كما ظهر أيضا من خلال الرسائل والوصايا التي حملتها أوراق البردي لعدد من الوزراء والحكماء، وقد دارت تلك النقوش حول بعض الحِكم والآداب والنصائح الدينية والدنيوية التي يجب أن يلتزم بها المواطنون كي يكونوا أسوياء، وقد جاءت في مجملها في صورة أدبية رائعة.
أما الإعلام المعارض فلم يكن له ظهور واضح (أو على الأقل لم تظهر لنا منه صورة كاملة حتى الآن)، وربما كان ذلك بسبب القبضة الأمنية الشديدة التي حكم بها معظم الملوك خلال تلك الحقبة. وبالرغم من ذلك، فقد وصلتنا بعض المظاهر الخبرية التي تدل على وجود ضجر وتأفف لدى المواطنين تجاه الملوك المتغطرسين؛ كتلك اللوحة الحجرية، تعود لعصر الأسرة الثانية والعشرين والتي تم تهريبها منذ عشرات السنين لمتحف اللوفر بفرنسا، وهي تحكي لنا عن معارضة ضخمة قامت ضد الملك "تكلوت الثاني"؛ الذي حكم مصر لعشر سنوات وأراد أن يورث الحكم لحفيده "وسركون"، وهنا يظهر زعيم ديني معارض يدعى "حور سا إيزيس"؛ استطاع أن يجمع عددا غفيرا حوله من خلال الرسائل التي أرسلها للشعب فثار عدد من المواطنين معه. وبالرغم من أن نهايتهم كانت أليمة؛ حيث أعدمهم الملك ونكل بأجسادهم وحرقها، إلا أنه لم يستطع توريث الحكم؛ حيث قامت ثورة أخرى فأزاحته.
وهناك لوحة حجرية أخرى أعطتنا تقريرا عما كان عليه وضع عمال دير المدينة خلال عصر الأسرة العشرين، فقد عانوا من تضييق وتقتير؛ ما دفع ثمانية منهم إلى أن يتواصلوا مع بعضهم البعض، من خلال زعيم لهم يدعى "حعبي ور"، فاجتمع بهم لأكثر من مرة مشجعا إياهم على أخذ حقوقهم. وبالرغم من أن نهايتهم كانت محزنة، حيث تم إعدامهم جميعا، إلا أن العملية كان لها تأثير كبير على عدد من الأمراء الذين بدأوا في رفع الظلم عن العمال حتى لا تتكرر المأساة.
كما أن هناك مشاهد تمثيلية نقلتها لنا أوراق البردى، كتلك القصة التي حدثت منذ ما يقرب من 2400، حين اجتمع عدد من المصريين المعارضين للملك "بسماتيك الأول" واتهموه بالخيانة، وأعلنوا عصيانهم، ولم تهدأ ثورتهم إلا بإزاحته وأسره! أو كقصة الفلاح الفصيح التي وردت في بردية تُؤرخ بالعهد الإهناسي، إبَان حكم الأسرة الحادية عشر عام 2200 ق.م تقريبا، ولا تزال محفوظة في المتحف البريطاني بلندن حتى الآن. وهي تصور لنا ثورة رجل فقير على موظف حكومي جشِع؛ سلبه حقه في عصر الملك "نب - كاو - رع - خيتي الثاني"، ولا يعود الفلاح إلى بيته إلا وقد أخذ حقه السليب وزيادة.
وفضلا عن الإعلام المحلي في مصر الفرعونية، كان هناك أيضا إعلام دولي؛ تجاوز القطر المصري حتى وصل للعديد من دول الجوار جنوبا وشرقا وغربا، حيث وجدت هناك في بلاد النوبة وإثيوبيا وفلسطين وسوريا وليبيا وغيرها من الدول؛ منقوشات فرعونية تحمل الكثير من أخبار مصر خلال تلك الفترات.