شكلت مشاركة المرأة الجزائرية، في الحراك الشعبي الذي انطلق في الـ 22 من شباط (فبراير) الماضي، علامة فارقة في قوة وتماسك ثورة الجزائريين ضد منظومة الفساد والاستبداد، وأعطت إلى جانب القوة العددية للمرأة التي تشكل نصف المجتمع، عامل أمان ضخم، في أن يستمر هذا الحراك بسلميته وتحضره، لتسجل بذلك هذه المرأة، عودتها من بعيد في رسم مستقبل البلاد، بعد غياب طويل نوعا ما، لأسباب مختلفة، وهي التي شاركت بالأمس بقوة في ثورة التحرير إلى جانب أخيها الرجل، بينما بقيت طوال سنوات الاستقلال الـ 57 شبه منعزلة عن الفعل السياسي، إلا بصورة محتشمة، بما يدلل أن المرأة الجزائرية تصر على أن تقول كلمتها في المنعرجات الحاسمة دائما.
لكن، كيف كانت هذه المشاركة القوية في مجتمع ما يزال يعتبر محافظا، خاصة في المدن الداخلية؟ وهل لحالة الوعي الكبيرة التي يعيشها المجتمع الجزائري، علاقة بهذا التحول الحاصل في وعي المرأة الجزائرية، التي كانت إلى وقت قريب، منهمكة في اهتمامات بسيطة وأحيانا سطحية؟ وما موقف المجتمع من الظاهرة في خضم تحولات متسارعة وكبيرة؟
المرأة الجزائرية تغير وجه الحراك
لم تشارك المرأة الجزائرية بشكل كبير في بداية حراك 22 شباط (فبراير)، لاعتبارات كثيرة، لكنها سرعان ما التحقت وبشكل غير متوقع، بعد أن تبين أن قوى الأمن لن تقمع المظاهرات كما كان يتخوف الكثيرون، حيث اقتصرت المشاركة في البداية على الشباب القوي المتحمس، القادر على مواجهة قوات الأمن.
لكن منذ الجمعة التي صادفت عيد المرأة في الثامن من آذار (مارس) الماضي، تغيرت الصورة بالكامل، حيث اجتاحت المرأة الجزائرية التظاهرات في تلك المناسبة الخاصة بقوة غير متوقعة، وهي تحمل إلى جانب الشعارات السياسية التي تنادي بحرية الجزائريين وحقهم في الديمقراطية، الورود توزعها على المواطنين وعلى أفراد قوى الأمن، فكان ذلك تحولا جذريا في مسار الحراك الجزائري، الذي بدأ من حينها يأخذ طابعا مليونيا بامتياز.
لقد استطاعت المشاركة القياسية للمرأة الجزائرية في هذا الحراك أن تغير من وجهه بشكل واضح، ليصبح حراكا شعبيا بأتم معنى الكلمة، وسلميا إلى أبعد الحدود، كان فيه للمرأة المحامية والطبيبة والعاملة والطالبة والماكثة في البيت وغيرها من شرائح المجتمع النسائي، دوره البارز في تشكيل الحراك تشكيلا فسيفسائيا بهيجا وبرائحة العطور الجميلة.
غياب التحرش شجع النساء على الانخراط في الثورة
ما شجع المرأة الجزائرية أكثر، علاوة على التعامل الحضاري لقوى الأمن خاصة في البداية، على المشاركة وإثبات الذات وتكريس رغبتها الجامحة في التغيير، هو الجانب الأخلاقي من القضية، حيث أدهش حراك الجزائريين العالم وحتى الجزائريين أنفسهم، بالقدر العالي من الأخلاق، وخاصة ظاهرة رفض التحرش بالمرأة وسط التجمعات الحاشدة المختلطة، حيث لم يسجل خلال جميع مراحل الحراك الذي كان يتحرك بأمواج بشرية عاتية أي حادث يستحق الانتباه من ناحية التحرش الجنسي، بل إن الرجال والشباب كانوا يقومون بحراسة النساء بوصفهن أخوات وزوجات وأمهات، حتى إنه في الحالات النادرة التي سجلت مثل تلك الحالات من التحرش، من طرف أشخاص هم في الغالب من البلطجية الذين أرسلتهم العصابة الحاكمة لتشويه وجه الحراك، تلقوا ضربا مبرحا من الحشود، إلى درجة اختفت معها الظاهرة بشكل شبه كامل، لتزيد من درجة الأمان والتلاحم.
لقد أثبت الجزائريون بهذه السلوكيات، أنهم عكس كل ما ظل الإعلام يكرره، من كونه شعبا عنيفا ومتوحشا ولا يحترم المرأة، ورغم أن حراك المرأة الجزائرية كان لافتا في العاصمة الجزائرية بشكل واضح، وفي بعض المدن الكبرى، إلا أن المرأة الجزائرية في المدن المحافطة والداخلية أيضا شاركت، وإن بشكل منفصل أحيانا عن حراك أخيها الرجل لاعتبارات مجتمعية مرتبطة بالتقاليد، وقد برزت مدينة برج بوعريريج شرق البلاد، كواحدة من أبرز مدن الحراك، لكن بطابعها الرجالي، الذي ظل يجمع أعدادا هائلة في ساحة قصر الشعب كل يوم جمعة، لكن من دون أن يحرم المرأة حقها في المشاركة عبر المسيرات التي تجوب أطراف المدينة.
وبعكس ما حدث من تحرش ضد النساء، في بعض الثورات الشعبية العربية، وخاصة في ثورة الشعب المصري وتحديدا في ميدان التحرير، فإن حراك الجزائريين جعل من المرأة الجزائرية جوهرة ثمينة، وكأنها تشارك في أحد ساحات الحرم المكي في صلاة العيد، وهي الصورة التي سيحتفظ بها الجزائريون طويلا، عن مرحلة اتسمت باحترام الجزائريين بعضهم لبعض، بغض النظر عن جنسهم أو سنهم أو انتماءاتهم الأيديولوجية.
جميلة بوحيرد وبن مهيدي
لا يمكن فهم دور المرأة الجزائرية في الحراك، من دون استنطاق التاريخ المشرف لتلك المرأة في مواجهة الاستعمار وقوى الهيمنة، وذلك منذ المقاومة التي أطلقتها لالة (السيدة) فاطمة نسومر ضمن الثورات الشعبية الأولى لمواجهة الاستعمار الفرنسي، إلى غاية شهيدات معركة التحرير الوطني من أمثال حسيبة بن بوعلي، ومليكة قايد وغيرهن العشرات، ممن قدمن أرواحهن فداء للجزائر الحرة المستقلة.
وتشاء الأقدار، أن يبقى بعض رموز الكفاح المسلح ضد الاستعمار من النساء لكي يعايشن اليوم مع جيل جديد تماما، فعاليات ثورة أخرى من نوع مختلف، ولكن هذه المرة ضد بقايا الاستعمار وضد التخلف والعمالة، ومن أبرز تلك الوجوه أيقونة الثورة الجزائرية جميلة بوحيرد، وأخت البطل الجزائري الكبير، الشهيد العربي بن مهيدي، ظريفة بن مهيدي.
بالنسبة لجميلة بوحيرد، التي عارضت العهدة الرابعة لبوتفليقة علانية، فقد نزلت رغم كبر سنها (84 سنة)، إلى الشارع لكي تعلن وقوفها إلى جانب الشباب وهي تصرخ "لا تتركوا أحدا يسرق ثورتكم"، لا تتركوا المتنكرين في عباءة الثورة يسيطرون على حركة التحرير الخاصة بكم، ولم يكن موقف بوحيرد جديدا على امرأة جزائرية حرة، إلا أن موقفها الذي عبرت عنه خلال تلك المسيرات يحمل دلالات مهمة وهي تعبر عن سعادتها باستعادتها لمكانتها كمواطنة في هذه المعركة من أجل الكرامة، بعد أن كاد الجميع يدخل في منعرجات اليأس والقنوط.
من جانبها خطفت شقيقة الشهيد بن مهيدي، السيدة ظريفة بن مهيدي الأنظار بمشاركتها الدائمة في فعاليات الحراك كلها تقريبا، وهي التي ظلت تنادي دائما قبل الحراك بضرورة إنهاء الوصاية الفرنسية على الجزائر، مصرة على أن تكون رسائلها هي أيضا ناحية الشباب "أقول للشباب دائما إلى الأمام حتى يخرج أعوان الاستعمار"، معبرة عن رغبة جامحة في أن تعود الجزائر إلى أهلها وإلى شبابها ومثقفيها.
الحراك كشف عن طاقات نسوية هائلة
ولأن المرأة هي المعنية بالحراك والتحرك، فإنها هي الأقدر على فهم هذه الحركة المثيرة للإعجاب، حيث تقول صحفية التلفزيون الرسمي الجزائري وسيلة لبيض، إن المرأة معروفة بالعاطفة، وعندما يتعلق الأمر بالمطالب، فإن صوت المرأة أقرب إلى التعبير عن المطالب لأنه يحمل المشاعر التي تنجم عن تراكمات، مشيرة إلى أن المرأة برزت من خلال الصورة السلمية التي أعطت نوعا من المسؤولية لهذا الحراك.
وتوضح الصحفية وسيلة لبيض في تصريح لـ "عربي21" أن التشريعات في الجزائر ساهمت بشكل كبير في تمكين المرأة سياسيا واقتصاديا واجتماعيا رغم بعض النقائص، إلا أن المرأة في الجزائر بحاجة إلى مزيد من الهيكلة والتأطير والتخندق في الحياة السياسية والجمعوية، موضحة أن الحراك كشف عن كفاءات وطاقات نسوية يمكن الاستثمار فيها مستقبلا، وعن نساء وشابات مثقفات ومتصلات بما يحدث في العالم يعكسن صورة جميلة عن الجزائر، لكن كيف يمكن استغلال هذه الكفاءات إيجابيا؟ وكيف يمكن أن نجعل منهن قوة في المستقبل؟ هذا هو السؤال الكبير أمامنا.
وأكدت وسيلة لبيض في النهاية قناعتها من منطلق تخصصها الإعلامي، أنه لو أجرينا كاستينغ لنبحث عن الكفاءات ما كنا لنجد ما أخرجه الحراك، فأفضل إسهام للمراة هو أنها قالت: أنا هنا ويمكن التعويل علي في عملية البناء.
من جانبها اعتبرت الإعلامية آمنة تومي، من موقع "الشروق أونلاين"، في تصريح لـ "عربي21"، أن المشاركة النوعية للمرأة الجزائرية بمختلف مستوياتها التعليمية والاجتماعية في الحراك، عكست مدى وعي المرأة الجزائرية بمتطلبات الوضع الراهن من خلال مساندتها للرجل، مُشكلة لبنة قوية لسلمية الحراك، ومُؤكدة دورها الجوهري كنواة للأسرة من خلال شحنها للهمم من داخل المجتمع وتعزيزها للحراك، من خلال التشبث بالقيم الأصيلة من إيمان بالقضية ودفاع عن أسس لبناء جزائر جديدة قوامها العدل والمساواة.
حضور المرأة عالج أمراضا نفسية كثيرة في المجتمع
أما الكاتبة والمبدعة الجزائرية حنين عمر، فقد شددت على أن المرأة الجزائرية كانت ولا تزال تقف جنبا إلى جنب مع أخيها وأبيها وزوجها وابنها من أجل الوطن، فمن عهد ما قبل الميلاد مرورا بثورات فاطمة تازغارت ونسومر، وصولا إلى الثورة التحريرية ومجاهداتها وشهيداتها من حسيبة بن بوعلي وجميلة بوباشا وجميلة بوحيرد، والأمثلة أكثر مما يمكن حصرها، وكلها تثبت أن المراة كما الرجل ضرورية في تغيير تاريخ بلادها.
وتوضح حنين عمر لـ "عربي21"، أن المرأة الجزائرية موجودة اليوم بقوة في ساحات الحراك الشعبي، لتثبت للعالم اختلاف سيكولوجية المرأة الجزائرية الحرة القوية التي لا ترضى بالذل والخنوع، منوهة إلى الإضافة النوعية التي ساهمت فيها المرأة الجزائرية ضمن الحراك، عبر اقتباس مقولة الإمام عبد الحميد بن باديس: "إذا علمت ولدا فقد علمت فردا، وإذا علمت بنتا فقد علمت أمة"، مشيرة من وحيها: "إذا ثار رجل فقد ثار فرد، وإذا ثارت امرأة فقد ثار شعب"؛ لأنها الأم التي تربي الرجال على الحرية ولأنها البنت والأخت التي تدفع أباها وأخاها ليحميها، ولأنها الزوجة التي تسند زوجها في كل ظروف الحياة، ولهذا فحين يرى رجل ثورة أمه، لابد أن ينشأ قويا حرا ثائرا مثلها فهي المؤثرة الأولى فيه.
وقالت حنين عمر، "إن وجود المرأة في الحراك، يعالج تلك الأمراض النفسية وتلك الحساسية والكراهية الدخيلة التي ظهرت مؤخرا بين الجنسين، وأصبحت تهدد استقرار الأسرة والمجتمع الجزائري، وقد كان هناك مظاهر كثيرة إيجابية أظهرت التكافل والحرمة والاحترام والأخلاق".
رشوة المرأة الجزائرية فشلت
ولكي ندرك أهمية مشاركة المرأة بهذا الحجم في الحراك الجزائري، لا بد أن نعلم مدى مراهنة نظام بوتفليقة على تحييدها وإخراجها بكل الطرق من الوصول إلى هذه النتيجة غير المتوقعة إطلاقا، فلقد عمل نظام بوتفليقة كل ما بوسعه، لمنح ما يسمى بحقوق المرأة كاملة غير منقوصة، في محاولات كانت مكشوفة لشراء ولاء المرأة عبر قوانين خاصة وأخرى عبر تعديلات في الدستور، من أجل ترقية الحقوق السياسية للمرأة، وإقرار كوطة للمرأة في المجالس المنتخبة، وتعديل قانون الأسرة، الذي منح حقوقا هائلة للمرأة، بهدف كسبها في شكل "رشى" ظل يقدمها لمختلف الجهات لضمان بقائه في الحكم.
وبينما كان الكثير من الجمعيات النسوية "المتغربة والمستلبة" تصفق لمثل تلك القرارات، ظلت المرأة الجزائرية الحرة تؤمن إيمانا عميقا أن حرية المرأة لا يمكنها أن تنفصل عن حرية أخيها الرجل، وعن حرية المجتمع ككل، وعندما حانت الفرصة، خرجت لتعلن أنها ولدت حرة، وستبقى حرة إلى جانب أخيها الرجل، من أجل جزائر حرة لا يعبث بها العابثون.
الجزائر.. هل تصمد "سلمية الحراك" طويلا؟
الجزائر.. الشباب والطلبة وقود الحراك الشعبي
الحراك الجزائري تجمعه الأهداف وتفرقه الهويات (2من2)