أفكَار

هل يعيد نجاح الثورة السورية الوهج إلى الإسلام السياسي في المنطقة العربية؟

يمثل سقوط الأسد على يد هيئة تحرير الشام عودة جذرية للإسلام السياسي في إحدى تعبيراته وقد جاءت في مشهد انتصاري وبمضمون قيمي معتدل ومتسامح.. (أرشيفية)
مثل انتصار الثوار السوريين بقيادة هيئة تحرير الشام في إسقاط نظام الأسد نقطة تحول كبرى في التاريخ السياسي المعاصر لسوريا، وربما في المنطقة برمتها، إذ يتوقع أن تكون له تبعات كبيرة على المستوى المحلي والإقليمي حيث سيؤدي هذا إلى تغييرات في توازن القوى، وسيكون له تداعيات كبيرة على مستقبل سوريا والمنطقة ككل.

وتعود أهمية سقوط نظام البعث الحاكم في سوريا منذ ستة عقود، ليس لأهمية البعث في ذاته، وإنما لحجم الجرائم التي ارتكبها بحق الشعب السوري، مند أواخر سبعينيات القرن الماضي حتى سقوطه يوم الثامن من كانون أول / ديسمبر الماضي..

ويتزامن هذا التطور المفصلي في تاريخ المنطقة العربية مع استمرار حرب الإبادة التي يقودها الاحتلال الإسرائيلي ضد قطاع غزة منذ السابع من تشرين أول / أكتوبر 2023، والتي راح ضحيتها عشرات الآلاف من الشهداء والجرحى ومئات الآلاف من المهجرين والنازحين، فضلا عن تدمير نحو 90 بالمائة من البنية التحتية للقطاع.

الوزير التونسي السابق الكاتب والباحث في الشأن السياسي أحمد قعلول، يقرأ، في هذه الورقة التي أعدها خصيصا لـ "عربي21"، حدث الثورة السورية الذي فاجأ الجميع في لحظة تاريخية مفاجئة وتمكن من إنجاز حلم راود السوريين على مدى أجيال، وتداعياته الإقليمية..


الرابحون والخاسرون

من الصعب الحديث عن رابحين وخاسرين في هذه المرحلة المتقلبة، فالسوريون مازالوا في أيامهم الأولى لطي صفحة سوداء من حكم الاستبداد، وغالبيتهم تضرروا من ذلك العهد وإن بنسب متفاوتة..

الإسلام السني:

مثلت المملكة العربية السعودية لعقود طويلة الدولة الراعية للإسلام السني ثم إنها ما لبثت أن تخلت عن هذا الدور. وقد استثمرت إيران هذا الفراغ للتقدم لملئه ونجحت في مهمتها لحد بعيد، بل تقدمت لتصبح صاحبة نفوذ في العديد من العواصم العربية. وربما كانت دمشق إحدى هذه العواصم التي اتكأت عليها إيران في توسيع نفوذها ليس في الشرق الأوسط فحسب، بل وفي المنطقة العربية بشكل عام.

ولذلك مثل سقوط نظام بشار الأسد ضربة قاسمة، لا أقول للنفوذ الإيراني في الشرق الأوسط بالنظر للموقع الاستراتيجي الذي تتمتع به سوريا، وإنما لنموذج "محور المقاومة" وإضعافا لجاذبية الإسلام الإيراني.

والحقيقة أنه لو لم يحصل هذا لكانت كتائب حزب الله والحشد الشيعي منتشرة في جميع الدول العربية بما هي نموذج المقاومة والتحرر وذلك حتى بعد هزيمة حزب الله في لبنان.

مثل السمت المعتدل الذي بدا عليه "أحمد الشرع" وسماحة هيئة تحرير الشام في تحريرها لدمشق وبقية المدن السورية التي سيطرت عليها إحياء لجاذبية الإسلام السني الذي شوهته الجماعات الإسلامية المتطرفة خاصة منها تنظيمي القاعدة وداعش. ومثل دعم تركيا وقطر للثورة السورية بروز قيادات جديدة للإسلام السني فقدتها منذ تخلت السعودية عن هذا الدور.

ستكون معركة الرمزيات مساحة محورية للصراع في المرحلة القريبة المقبلة خاصة مع تقدم الكيان الصهيوني بمقولات الديانة الإبراهيمية وما ماثلها من سياسات ثقافية تغرق فيها الإمارات العربية المتحدة خاصة وإلى حد ما المملكة العربية السعودية، وإن كان خروج إيران من سوريا يمثل نوعا من الانتصار للسعودية بما أن خصمها الأساسي قد انحسر عن مساحة وعمق استراتيجي للمملكة ولمصر وهو ما يفسح المجال للمملكة مع تركيا وقطر لاستعادة موقع ما لقيادة الإسلام السني في العالم.

مقابل ذلك نقدر أن العمل على تشويه هذه الصورة من خلال البروباغندا والتشويه والتعتيم وارتكاب الجرائم ونشر الشائعات سيكون مسارا لعله بدأ، ويهدف لخلط وتيئيس المسلمين من أنفسهم ومن قدرتهم على الانتصار وتشكيكا في قناعاتهم في هويتهم الدينية وقيمهم الإنسانية.

الإسلام السياسي:

تمثل الحركات الإسلامية أحزابا وهيئات في العالم العربي خاصة والإسلامي عموما، العنوان الأساسي للافتة "الإسلام السياسي".

وبغض النظر عن طبيعة الإجابة عن السؤال المتعلق بأحمد الشرع وهيئة تحرير الشام، فإن الصورة في غالبها تصف هيئة تحرير الشام من خلال خلفيتها المنتسبة للإسلام السياسي العنيف في تاريخه أكان ذلك تنظيم القاعدة أو تنظيم الدولة "داعش". واضح كذلك بأن مقاربة هيئة تحرير الشام فاجأت الجميع من حيث تكذيبها للتوقعات وتقديمها لصورة معتدلة ومستوعبة للمختلف وبعيدة كل البعد عن الراديكالية الثورية.

على أهمية الحدث الأفغاني وانتصار طالبان إلا أنه يصعب تصنيف طالبان كجزء من الإسلام السياسي بالمعنى الحديث، ومع ذلك وبأخذ الحدث الأفغاني بعين الاعتبار فإن موقع الرقعة السورية أهم بكثير بالنسبة للعالم من أفغانستان على أهميتها كقطعة استراتيجية في آسيا، في حين أن سوريا تعتبر بوابة استراتيجية ليس فقط في الشرق الأوسط، بل محورا للتداخل الاستراتيجي بين آسيا وإفريقيا وأوروبا. يمثل سقوط الأسد على يد هيئة تحرير الشام عودة جذرية للإسلام السياسي في إحدى تعبيراته وقد جاءت في مشهد انتصاري وبمضمون قيمي معتدل ومتسامح بما مثل انتصارا كبيرا للإسلام السياسي.

إننا في سوريا بإزاء تجربة إسلامية مغايرة تماما عن سابقاتها، فزعيم هيئة تحرير الشام الذي تحول في فترة وجيزة من مطارد من أقوى دولة في العالم إلى شريك سياسي يتم امتحانه، ويقدم حتى الآن خطابا سياسيا وفكريا ناضجا ومستوعبا لتحديات بلاده والمنطقة والعالم، وهو ما يسمح لنا بتوقع اختراقات كبيرة في تنزيل الإسلام كتجربة في قيادة الدولة أولا من طرف جيل إسلامي شاب، تعلم من أخطاء أسلافه، وهو جيل تقابله الأيادي الممدودة من طرف القوى الدولية الكبرى، كل لأهدافه.
ويأتي هذا المشهد في مرحلة يتصاعد فيها التوجه لتجريم الإسلام السياسي في كل صوره وخاصة الإخوانية، إذ تعتبر العديد من الدول الإخوان التوجه الإسلامي الأساسي الذي يقف حجر عثرة أمام مسار تطبيع وجود الكيان الصهيوني في المنطقة ومن جهة أخرى فقد حكم عليه بالفشل بعد موجات الثورة المضادة التي كانت تونس آخر حلقاتها.

ضمن هذه الأجواء يأتي الحدث السوري ليفتح الباب لقلب المعادلة، إذ بدأنا نسمع للعديد من الخبراء والعقول المفكرة للدول الغربية حديثا عن "الجولاني" (أحمد الشرع) كونه تغير واقترب من الصورة المعتدلة للإسلام الاخواني أو القطري، وعادة ما يأتي هذا الحديث في إطار النظر في فرصة التعامل معه بما أنه ابتعد عن الصورة الداعشية أو عن تنظيم القاعدة وتحول لإسلام براغماتي منفتح على التعامل مع الجميع ومهتم بالقضايا الداخلية لسوريا بعيدا عن الرسالة الكونية لداعش والقاعدة.

المهم في هذا السياق الجديد كونه يفتح الباب لإعادة التقييم والحساب بخصوص التعامل مع الإسلام السياسي ومع مكوناته في صورته الإخوانية.

كما يفتح الباب لمكوناته للتفكير في سياساته تجاه الحدث السوري بما يدعمه ويقوي دينامياته في المنطقة بما هي دينامية تخدم مصالحه وأهدافه التي يشتغل عليها.

ومن جهة أخرى فإن هذه الدينامية تفتح الباب لعدد من الفاعلين لمحاولة تشويش الصورة بحيث يتم العمل على بروباغندا وربما أعمال إرهابية تنسب لأحمد الشرع ولهيئة تحرير الشام من أجل تضخيم صورة الجولاني ذو الخلفية الداعشية على صورة أحمد الشرع الحامل لمضمون معتدل.

كما أن المتوقع أن يتم العمل على إحياء شياطين الأمس (الدواعش) خاصة وأن السجون السورية تحوي عشرات الآلاف من المقاتلين المنتمين لداعش بالإضافة للمجموعات المسلحة الأخرى المرعية من قبل بعض دول الإقليم والكيان الصهيوني والتي يصعب أن تقبل بصعود الإسلام من جديد في رقعة أساسية من المنظومة العربية خاصة وقد تم الانقلاب عليهم في رقع أخرى أو إضعافهم على أدنى تقدير.

لذلك فإنه من المتوقع أن تسعى القوى المضادة للثورة لوسمها بالإرهاب وربما لاختراقها وتوريط بعض الأطراف داخلها في أعمال إرهابية وذلك من أجل تأليب العالم عليها وإضعاف قدرة الجهات والدول الداعمة لها سعيا منها لعزلها ثم تفكيكها.

سيتم استعمال ورقة رفعها من قائمة التصنيف كورقة ضغط من أجل فرض سياسات عليها وتنازلات عليها تضعفها أو تفككها.

كما سيتم الضغط على "أحمد الشرع" للابتعاد أكثر ما أمكن عن المكون الاخواني للإسلام السياسي وربما الدخول معه في صراع، سيكون من الصعب أن تستوعب الساحة السورية مكونا سياسيا واجتماعيا له قدرات تنظيمية عالية وعريقة وعصبية فكرية صلبة وقوية مع تنظيم سياسي ليس له هذه الأصول وله القدرة على احتكار العنف ومؤسسات الدولة.

والراجح ان تستعمل ورقة تمويل إعادة الاعمار كأداة ضغط من مثل هذه الأطراف الغربية منها أو العربية، إذ تبقى حركة الاخوان بالنسبة لهذه المكونات العنصر الأخطر في المعادلة الإسلامية خاصة بالنظر لارتباطها بالقضية الفلسطينية وبالنظر لقدرة تنظيم الاخوان على الصمود وإنتاج النخب.

يواجه الإسلام السياسي من خلال مكوناته الحزبية تحديات جدية بخصوص كيفية إعادة تعريف رهاناته وعرضه السياسي على مجتمعاته (بين أن يتقدم كقوة سياسية هي الأقدر على الانتصار ديمقراطيا على بقية المكونات السياسية في العالم العربي وتهميشهم بما يدفعهم لاعتبار أن الديمقراطية هي التي فتحت الباب للإسلاميين كي يحكموا، وبين فتح باب الأحزاب الإسلامية لكل المكونات الوطنية على أساس أرضية الديمقراطية والحرية بحيث يكون الإسلام السياسي رافعة للنخب بغض النظر عن خلفياتها ما يوسع من قاعدة المنتصرين للديمقراطية ويخفف من العناد لاستقرار الديمقراطية في الدول العربية).

وقد تم امتحان مقولات الإسلام السياسي في العديد من الساحات القطرية وخاصة في دول الربيع العربي أو التجربة السودانية، وكذلك تجربة حركة حماس في غزة وبقية الأراضي الفلسطينية.

وتبين كل هذه التجارب أن الشعوب العربية تعاقب بسبب اختيارها الحر للإسلام.

وفي حال تمكنت القضية الفلسطينية من تحقيق انتصار كبير على مستوى القيم الإنسانية في جميع دول العالم مع اختلاف الأعراق والديانات، وبالنظر لثراء تاريخ الحضارة الإسلامية في كل جغرافيته وخاصة الشام والعراق الأمر الذي يسمح بوراثة كل هذا التنوع الذي يروج له كسبب للفرقة والتفكك في سوريا، فإن هناك فرصة حقيقية للإسلام والإسلاميين لتقديم نموذج أرحب وأكثر سماحة في طريقة إدارته للشأن العام متحررا من قيود الدولة القومية الحديثة وحدودها الطائفية والعرقية العنصرية.

تبقى الإشارة إلى أننا في سوريا بإزاء تجربة إسلامية مغايرة تماما عن سابقاتها، فزعيم هيئة تحرير الشام الذي تحول في فترة وجيزة من مطارد من أقوى دولة في العالم إلى شريك سياسي يتم امتحانه، ويقدم حتى الآن خطابا سياسيا وفكريا ناضجا ومستوعبا لتحديات بلاده والمنطقة والعالم، وهو ما يسمح لنا بتوقع اختراقات كبيرة في تنزيل الإسلام كتجربة في قيادة الدولة أولا من طرف جيل إسلامي شاب، تعلم من أخطاء أسلافه، وهو جيل تقابله الأيادي الممدودة من طرف القوى الدولية الكبرى، كل لأهدافه.

تركيا وقطر:

يمكن القول إن تركيا وقطر من أبرز الأطراف الرابحة من الحدث السوري لهذه الاعتبارات:

ـ لا شك أن كلا من تركيا وقطر  كلاهما يعبر عن نظام مستقل عن الآخر ولكل واحد منهما مصالح مستقلة يدافع عنها وأن مصالح الدول يمكن أن تلتقي في مراحل كما يمكن أن تختلف كما يمكن أن تتطور إلى مصالح استراتيجية.

ـ تقف كل من دولة قطر وتركيا منذ قرابة العقد والنصف على نفس الأرضية الاستراتيجية.

فكلاهما اقترب من روح شعبيهما في علاقته بالإسلام وبالقضية الكبرى للمسلمين أي القضية الفلسطينية، وكلاهما تبنى مقاربة معتدلة للإسلام، وكلاهما يشتغل داخل المنظومة الغربية، فتركيا جزء من حلف الناتو وتستقر في قطر أحد أهم القواعد العسكرية الأمريكية في الشرق الأوسط.

ومع كل هذا وقفت كل من تركيا وقطر مع موجات الربيع العربي واستطاعتا التأقلم مع التغييرات الجذرية التي شهدتها دوله بفضل ثورات شعوب المنطقة. وقد تحملت كل من تركيا وقطر دفع ثمن مرتفع لمواقفهما بهذا الصدد على أن الدولتين لم تفقدا اتجاه البوصلة الأساسي بخصوص القضية الفلسطينية.

ـ يجمع أغلب المتابعين على اعتبار تركيا الرابح الأكبر من الحدث السوري وهناك من يمضي بعيدا باعتبارها المحرك الأساسي له.

وبغض النظر عن التفاصيل فإن العامل التركي والقطري تدخلا في الوقت المناسب أو الساعات المناسبة لجعل الحدث السوري ممكنا، كما أنهما أول من تحرك لدخول سوريا الجديدة حتى قبل توضح معالمها واستقرار أوضاعها وأسس دولتها. ولا شك أن هذا يعطيهما سبقا استراتيجيا في استثمار مكاسب الثورة السورية كما يحملهما عبئا إضافيا لخسائرها إن وقعت ولم يتم تجنبها.

يفتح هذا الحدث أفقا واسعا لتحقيق انتصار لأردوغان الذي يعاني من الأثمان الباهضة التي دفعها ويدفعها بسبب دعمه المباشر لثورات الربيع العربي ووقوفه ضد الانقلاب الذي حصل في مصر واستقباله لملايين اللاجئين السوريين، وواضح أنه لم يتردد في القيام بما يستوجبه الأفق الاستراتيجي السانح بفضل الثورة في سوريا وبفضل الفراغ الذي أحدثه تراجع النفوذ الإيراني في المنطقة.

كل هذا يسمح لتركيا ومعها قطر للعب دور إقليمي وحتى دولي مركزي ضمن تقاطع المصالح في المنطقة بما يساعدهما على تجاوز الأزمات التي عانتا منها في الفترة الماضية واستثمار صمودهما لصالحهما. واضح أنهما يتموقعان كل من جهته ضمن تقاطعات تسمح لهما بالمناورة من أجل ضمان الاستقرار المطلوب تحقيقه في سوريا.

ـ ومن الآفاق الممكن إنجازها العمل على تحقيق مصالحات في المنطقة تجنبا لانفجارات متوقعة.

ـ العمل على ضمان أن لا تكون هذه الانفجارات المتوقعة ضاربة للاستقرار في الدول التي يحصل فيها.

ـ كما يفسح المجال لكليهما لتحقيق مصالحات بين الدول العربية والإسلامية بداية من دول الخليج.

ـ لا شك أن ملف إعادة إعمار سوريا سيمثل فرصة كبيرة خاصة لكلا الدولتين كما يمكن أن يمثل رافعة للتفاوض مع العديد من الفاعلين الدوليين الذين يريدون أن يكون لهم سهم في هذه العملية.

ـ إن الإغراء بهذا الملف سيكون عاملا جديا في التخذيل عن مغريات إشاعة الفوضى والاضطراب في سوريا.

وهذا يعني أن العديد من الدول الأوروبية يمكن أن يفسح لها المجال في برنامج إعادة الإعمار، كما يمكن أن يكون للولايات المتحدة دورا مهما في هذا القطاع. هذا بالاضافة لفرصة العمالة المصرية مع سهم مناسب للملكة العربية السعودية.

إن الحدث السوري بقدر ما يمثل إشعارا بالخطر للنظام المصري، فإنه يمثل في نفس الوقت فرصة جدية لدخول الدولة المصرية في مصالحات داخلية تساعدها على استعادة دورها الإقليمي وتخرجها من حالة التهميش والتيه الذي تعاني منه
ـ يمثل هذا الملف فرصة جديدة لعودة تركيا من خلال مصر للملف السوداني، إذ من البين أن مصر وحدها غير قادرة على حسم معادلة الملف السوداني وأنها بأمس الحاجة لفك الحصار المضروب عليها من الجنوب (السودان).

ـ إن الحدث السوري بقدر ما يمثل إشعارا بالخطر للنظام المصري، فإنه يمثل في نفس الوقت فرصة جدية لدخول الدولة المصرية في مصالحات داخلية تساعدها على استعادة دورها الإقليمي وتخرجها من حالة التهميش والتيه الذي تعاني منه، ويمكن لدولة قطر وتركيا أن تقوما بدور في هذا الاتجاه، إذ أنه يعسر إن لم يكن من المستحيل أن يتواجد نظامان متناقضان في طبيعتهما في مصر وسوريا، ولذلك فان من أهم التحديات أو الرهانات التي يحسن العمل عليها تتمثل في العمل على فتح أفق اشتراك المصالح في التغيير في سوريا لصالح الدولة المصرية.

ـ كما يمكن لتركيا أن تلعب دور طمأنة الجانب المصري الذي لا شك أنه يخشى التوسع الروسي في الشرق الليبي بما يحفظ لمصر مصالحها في المنطقة وبما لا يجعل هذا التوسع خطوة إضافية لخنق الدولة المصرية، وهذا الدور ينطبق في ذات الوقت في العلاقة بالدولة الجزائرية.

هذا بالإضافة للمجال المفسوح لكل من قطر وتركيا للعب دور إيجابي في الملف الليبي بما يسمح باتخاذ خطوات في اتجاه تحريك أزمته نحو حل ممكن.

روسيا:

تعتبر العديد من التحاليل أن سقوط نظام بشار الحليف التقليدي لروسيا يمثل هزيمة قاسية لها خاصة وأن القوات الروسية مثلت العمود الفقري لصموده خلال السنوات الماضية وأن تخليها عن الدفاع عنه كان العامل الأساسي في سقوطه ولجوئه إليها.

إلا أن هذه الخسارة لا يمكن وصفها، بالخسارة الاستراتيجية بما أن موسكو حافظت على وجودها وقواعدها العسكرية في سوريا وخاصة قدرتها على الولوج للمياه الدافئة للبحر الأبيض المتوسط وبالتالي التحرك فيه وفي شمال إفريقيا ومنها منطقة جنوب الصحراء.

يمثل بقاء روسيا وإن في الحد الأدنى داخل سوريا ورقة بيد القيادة السورية الجديدة يمكن استعمالها في ميزان المفاوضات مع الفاعلين الدوليين.

ومع ذلك فإن روسيا لم تتردد في التحرك مباشرة لدعم وجودها في الشرق الليبي كورقة محتملة بديلة عن الخسارة التي تكبدتها في سوريا.

الراجح أن إيران لن تقبل بوضع الهزيمة وأنها ستحاول مثلها مثل روسيا استعادة نفوذها الاستراتيجي الذي يحميها من ضرورة الدفاع عن حدودها الداخلية، والأكيد كذلك أن هذا التوجه متوقع لدى القوى المحاربة لها والتي من المتوقع أن تسارع في اتخاذ خطوات أخرى لأجل محاصرة إيران في حدودها الداخلية ثم العمل على إضعاف نظامها من خلال التركيز على تناقضاته الداخلية.
يمثل التحرك الروسي في اتجاه شرق ليبيا وسعيها للتوسع في منطقة جنوب الصحراء تحريكا إضافيا للصراع الدولي والإقليمي واقترابا من قلب البحر الأبيض المتوسط ومن غير المستبعد أن يدفع هذا بالولايات المتحدة وحلف الناتو للسعي لتثبيت وجود عسكري واضح في المنطقة أكان ذلك في الحدود التونسية أو داخل الحدود الليبية قريبا منها، والراجح أن تضغط واشنطن على حاكم تونس لقبول إقامة قاعدة في الحدود التونسية خاصة بالنظر للاتفاقية التي وقعها الرئيس الراحل الباجي قايد السبسي، وبالنظر كذلك لما أشار إليه سفيرها السابق "جووي هود" من أن علاقة الولايات المتحدة بتونس استراتيجية وأن تونس يمكن أن تكون قاعدة لتصدير الأمن لمنطقة جنوب الصحراء وبقية الدول الأفريقية.

كما يتسبب التحرك الروسي في اتجاه ليبيا إزعاجا لكل من الجانب الجزائري وكذلك المصري. فكلا الدولتين تعانيان من حالة اختناق، فمصر محاصرة من جميع الجهات تقريبا، ولم يبق للجزائر إلا جارتها الشرقية تونس.

ويتسبب التحرك الروسي للشرق الليبي أيضا في زيادة توتير العلاقة مع فرنسا التي يتراجع نفوذها الإفريقي بشكل متدرج، ولذلك فإن اقتراب روسيا لمثل هذا الحد يمثل كابوسا لصانعي القرار في باريس، وهو ما يجعل الجميع ينتظر ردة الفعل الأمريكية مع مجيء ترامب، وإن كان الراجح أن إدارة ترامب لن تعتبر هذا الوجود تهديدا استراتيجيا ولذلك ستتعامل معه ببراغماتية في إطار التعاون مع الشريك التركي، وإن كان هذا التعويل مزعجا للحليف الأوروبي، الذي يصعب عليه اتخاذ موقف استراتيجي متناقض مع سياسات الحليف الأمريكي، وذلك في المدى المنظور على الأقل.

وبالتالي فإن أوروبا ربما تجد نفسها مضطرة للقبول بأي تسوية مع روسيا للملف الأوكراني وإن على حساب أوكرانيا ما يسمح لها باستعادة علاقاتها التجارية معها خارج أجندة توسع حلف الناتو وهذا مسار ربما يأخذ وقتا لا يقل عن السنة.

إيران:

تمثل هزيمة بشار الأسد ضربة مؤلمة لإيران وانحسارا لنفوذها إذ ان هذه الضربة تعزلها عن أهم قاعدة لتزويد ذراعها العسكري الرئيس وأعني به حزب الله بالسلاح.

الراجح أن إيران لن تقبل بوضع الهزيمة وأنها ستحاول مثلها مثل روسيا استعادة نفوذها الاستراتيجي الذي يحميها من ضرورة الدفاع عن حدودها الداخلية، والأكيد كذلك أن هذا التوجه متوقع لدى القوى المحاربة لها والتي من المتوقع أن تسارع في اتخاذ خطوات أخرى لأجل محاصرة إيران في حدودها الداخلية ثم العمل على إضعاف نظامها من خلال التركيز على تناقضاته الداخلية.

إن الانتكاسة التي حصلت لإيران لا يقابلها إلا سعيها الحثيث لإتمام الخطوات اللازمة من أجل الإعلان عن امتلاك السلاح النووي، كل ذلك قبل استقرار الإدارة الأمريكية الجديدة، وهو ما يعني أن الحكومة الإسرائيلية ربما ستكون مستعدة للمغامرة بالمبادرة باستهداف المنشآت الإيرانية في ذات السياق الانتقالي للإدارة الأمريكية.

وإذا حصلت خطوة من هذا النوع، لا سيما مع استمرار الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، فإنه من غير المعلوم مدى قدرة الدولة الإيرانية للرد عسكريا على إسرائيل..

ولذلك فإن هذه الهزيمة، إن جاز التعبير للدور الإيراني أو قل للمكانة الإيرانية في سوريا وتبعا لذلك في لبنان، بقدر ما هي مؤلمة لدولة إيران فإنها تمثل فرصة لعودتها عن العديد من السياسات التي جعلتها غريبة عن القضايا الاستراتيجية للأمة، ومن ذلك استثمارها للفراغ الذي حصل في العديد من أقطار العالم الاسلامي من أجل تحقيق اكتساح ذو طابع طائفي.

اقرأ أيضا: الثورة السورية الحدث والمآلات.. قراءة هادئة في تحول موازين القوى بالمنطقة