مع ظهور المزيد من صور يوم فض اعتصام القيادة العامة في 3 تموز/ يونيو الماضي، والتي كانت محجوبة بسبب انقطاع الإنترنت، تتصاعد تفاعلات الثورة السودانية، وتتزاحم اجتماعات ولقاءات الأطراف المحلية والإقليمية والدولية ذات الصلة، أو التي تريد أن تجد موطئ قدم في السودان.
ومع تصاعد هذا الزخم، تتزايد نذر تدويل الثورة السودانية، وفي ذلك خطر شديد عليها، ذلك أن العديد من الأطراف الاقليمية والدولية النافذة من مصلحتها وأد الثورة حتى لا تسري عدواها في المنطقة مجددا، فتعيد خلط الأوراق أمام تلك القوى وتجبرها على التعامل مع واقع جديد لم يكن في حساباتها من قبل.
لا يمكن إعفاء المجلس العسكري الحاكم من التسبب في تدويل الخلاف بينه وبين قوى الحرية والتغيير؛ بسبب رغبته المفضوحة في الهيمنة على السلطة، ورفض نقلها كاملة للمدنيين (نتحدث هنا عن السلطات السيادية وليس فقط التنفيذية)، وقيامه من أجل ذلك بفض اعتصام القيادة العامة، وسفك دماء عشرات السودانيين خلال ذلك الفض الغشيم، وهو ما ترتب عليه وقف الحوار معه من قبل قوى الحرية والتغيير التي لم تعد تثق به، وأصبحت من ذلك الوقت تصفه بالمجلس الانقلابي، وقد فتح ذلك الباب لأول وساطة خارجية من قبل رئيس الوزراء الأثيوبي أبي احمد، والتي سرعان ما تطورت إلى وساطة أفريقية عبر مجموعة "إيقاد" ثم تطورت أكثر إلى وساطة أمريكية عبر مبعوث خاص، هو مساعد وزير الخارجية للشؤون الأفريقية تيبور ناجي، الذي أطلق أول إشارة لتكرار السيناريو الليبي في السودان، والمقصود هو اندلاع حرب أهلية. وهذا الشخص ذو سمعة سلبية في السودان، إذ إنه كان من أكثر المساهمين في فصل جنوب السودان، وحين يتحدث عن احتمالات حرب أهلية في السودان حتى لو بدا حديثه من باب التحذير، إلا أنه يشي بأن إدارة ترامب المتطرفة، وعبر هذا الوسيط، جاهزة لتطبيق هذا السيناريو فعلا في السودان، استثمارا لحالة الاضطراب القائمة واستمرار الخلاف بين المجلس العسكري وقوى التغيير، وربما تنفيذا لرغبات (مدفوعة ماليا) لعواصم الشر العربية.
لا يمكن إعفاء المجلس العسكري الحاكم من التسبب في تدويل الخلاف بينه وبين قوى الحرية والتغيير؛ بسبب رغبته المفضوحة في الهيمنة على السلطة
حرص المبعوث الأمريكي على ترسيخ تدويل الأزمة خلال مؤتمره الصحفي عقب زيارته للخرطوم، حيث أكد أن "الولايات المتحدة تواصل التنسيق مع كافة الأطراف الإقليمية المعنية في أفريقيا والشرق الأوسط وأوروبا، وستكون هذه إحدى المهام التي سيضطلع بها السفير دون بوث وآخرون، حيث سيتم عقد سلسلة من المؤتمرات والفعاليات الأخرى في المنطقة وأماكن أخرى، وسنشارك على مستوى متعدد الأطراف"، كما أكد أن "السفير بوث سيزور الخرطوم وكافة عواصم الأطراف المعنية الأخرى". فهذا الحرص الشديد على فكرة التنسيق مع العواصم العالمية المختلفة لا ينبئ بخير مطلقا لما تضمره تلك العواصم للسودان وثورته، بل لكل تغيير ديمقراطي في المنطقة.
سيناريو الحرب الأهلية كان ولا يزال أحد السيناريوهات المطروحة لتطورات الوضع في السودان، ما لم يتوصل المجلس العسكري والقوى السياسية إلى اتفاق عاجل لنقل السلطة وترتيبات المرحلة الانتقالية بالكامل، وما يغذي هذا الاحتمال (بخلاف نوايا واشنطن التي ظهرت في تصريحات مبعوثها) أن السلاح الخفيف والثقيل متاح بيد العديد من القوى العسكرية والسياسية في السودان. فبخلاف القوات النظامية والدعم السريع والدفاع الشعبي والأمن والشرطة، هناك فصائل دارفور المسلحة (حركتا تحرير السودان وحركة العدل والمساواة)، والحركة الشعبية لتحرير السودان (جناحا مالك عقار وعبد العزيز الحلو)، والفصائل المسلحة في الشرق، والجبهة الثورية.. إلخ.
سيناريو الحرب الأهلية كان ولا يزال أحد السيناريوهات المطروحة لتطورات الوضع في السودان، ما لم يتوصل المجلس العسكري والقوى السياسية إلى اتفاق عاجل
صحيح أن أيا من تلك القوى لم يستخدم السلاح (باستثناء الدعم السريع)، إلا أن إمكانية الاستخدام تظل قائمة في أي لحظة حين يتعقد المشهد السياسي، وتشعر بعض الأطراف بغبن، وهنا لن يتوقف استخدام السلاح عليها، فمجرد انطلاق الرصاص سيخلط الأوراق في عموم السودان، وسيحوله بالفعل إلى حالة مشابهة لليبيا أو سوريا، وستظهر أسماء فصائل مسلحة جديدة تحمل أسماء إسلامية، كتعبير عن دخول تنظيمات داعش والقاعدة على الخط؛ لزوم استكمال المشهد، ولزوم وأد التغيير الديمقراطي في السودان، وقتل آمال التغيير والحرية في المنطقة كلها.
يعتبر الفريق محمد حمدان (حميدتي)، نائب رئيس المجلس العسكري وقائد قوات التدخل السريع، نفسه صمام أمان لمنع اندلاع حرب أهلية بحكم سيطرته على العاصمة الخرطوم.
ووفقا لما نقلته عنه صحيفة نيويورك تايمز، فإنه يعتقد أنه لولا وصوله إلى منصبه لضاع السودان. لكن في المقابل، يعتبره الكثيرون عنصر التوتر الأبرز، خاصة أنه لا يتوانى عن إطلاق الاتهامات بحق شباب الثورة وقوى التغيير، وهو ما ينطبق على قواته "الدعم السريع"
التي قامت بفض اعتصام القيادة، وبالتالي أصبحت في عداء مع قوى الثورة، ومع عوائل وأصدقاء كل الشهداء الذين سقطوا أثناء الفض. كما أن هذه القوات تثير حفيظة الكثيرين في بقية أفرع القوات المسلحة النظامية، وهي بشكل عام أصبحت هدفا للخلاص منها، ويتصاعد الطلب بذلك محليا ودوليا الآن، وهناك مخاوف أن تتمرد هذه القوات على أي محاولة للخلاص منها أو دمجها بشكل كامل في القوات النظامية، كما أن هذه القوات وإن أحكمت قبضتها على العاصمة، إلا أنها ليست كذلك في بقية الولايات والمدن.
مخاوف الحرب الأهلية يمكن تجنبها عبر وعي الشعب السوداني الذي حافظ على سلمية ثورته منذ اندلاعها في 19 كانون الأول/ ديسمبر الماضي وحتى الآن، وعبر إدراكه للمخططات الإقليمية والدولية للنيل من وطنه وثورته، وعبر حوار جاد ومباشر بين الطرفين المدني والعسكري لنقل السلطة، والدخول في مرحلة انتقالية تركز على القضايا العاجلة وتمهد الدولة لانتخابات تعددية تنافسية وفق دستور جديد يتم التراضي عليه شعبيا دون إقصاء لأحد.