في متحف يخلّد تاريخ السكان الأصليين في القارة الأمريكية، تروى قصة الصراع بين روح الأرض ومستوطنيها الجدد، متجليةً في الاحتجاجات العنيفة التي قادها السكان الأصليون من قبيلة ستاندج روك، في ولاية نورث داكوتا، قبل سنوات قليلة، في محاولة لمنع مد الحكومة خط أنابيب لنقل النفط والذي يمر تحت نهر ميزوري. ويرجع غضب السكان الأصليين إلى أن هذا الخط يلوث مياه الشرب التي يعتمدون عليها، كما ينال من رموزهم المقدسة، إذ يمر فوق قبور أجدادهم.
هذه الاحتجاجات شارك فيها ما لا يقل عن خمسة آلاف فرد من السكان الأصليين ومناصريهم، واعتصم فيها المتظاهرون رغم البرد الشديد والثلوج، وحاولوا إيقاف عمل الجرافات، وقد تصدت لهم الشرطة بالقوة، مستعملةً الغاز المسيل للدموع والرصاص المطاطي.
تمثل هذه القصة تجلياً واضحاً لصراع حسم بين الغزاة البيض الذين قدموا من أوروبا وأصبحوا الآن سادة هذه البلاد، وبين السكان الأصليين للقارة. قطعاً، لن يربح من تبقى من أقلية من السكان الأصليين المعركة، لكن ثمة أشياء تتعلق بالضمير الإنساني لا تقيم اعتباراً للقوة والضعف أو للكثرة والقلة. وقد كان هذا السؤال شاغلاً لي قبل زيارتي، وهو ما دعاني للطلب من جمعية "AFSC" التي نسقت رحلتي إلى أمريكا؛ أن تضمن جدول الرحلة زيارةً إلى السكان الأصليين.
التقيت بهم فعلاً في قاعة ضمت أكثر من خمسين منهم، حين كنا نتعارف كان كل واحد فيهم يبدأ بالتعريف عن نفسه بلغته الأصلية التي لا أفهم منها شيئاً، قبل أن يتحدث باللغة الإنجليزية، وهو لا يقصد أن أفهم لغته، بل يقصد أن يشير إلى تمسكه بهويته التي تمثل حصنه الأخير في مقاومة الطوفان، وفي التذكير بجذوره في هذه الأرض.
في زاوية من القاعة كانوا قد أعدوا طعاماً تراثياً وبجواره أعدوا طعاماً فلسطينياً، وكانوا يهتفون "Free Free Palestine".
فلسطين هي المرآة التي يرون تاريخهم فيها، فهم يؤمنون بالتشابه المصيري بين قضية فلسطين وقضيتهم. لقد تعرضوا لتطهير عرقي في موطنهم، وهو ذات السلوك الذي تنتهجه إسرائيل مع السكان الفلسطينيين الأصليين.
تتفاوت التقديرات حول عدد السكان الأصليين الذين قتلهم المستوطنون الأوروبيون خلال أربعة قرون، تمتد ما بين عام 1492، وهو العام الذي وصل فيه كريستوفر كولومبوس إلى البر الأمريكي، وبين بداية القرن العشرين. فهناك أرقام تتحدث عن الملايين وهناك تقديرات تتحدث عن عشرات الملايين، وهناك أرقام تتحدث عن أكثر من ذلك، لكن من المؤكد أنها جريمة إبادة مروعة.
إذاً كيف يحاول الأمريكيون التصالح مع هذه الحقبة من تاريخهم؟
في بعض الميادين والطرق العامة تنتصب تماثيل ترمز إلى السكان الأصليين، لكن تماثيل أخرى لا تخلو من إشارات تفوق عنصري، إذ تظهر الرجل الأبيض قادماً إلى هذه القارة وهو يحمل مشعل الحضارة والتنوير.
هناك متاحف تجسد طريقة حياة السكان الأصليين في السكن واللباس والتدين والتصنيع والطعام، وقد زرت أحد هذه المتاحف وشعرت بالامتنان للمعرفة الكبيرة التي منحتني إياها هذه الزيارة، لكن صديقةً فلسطينيةً مقيمةً في شيكاغو كان لها رأي مختلف، إذ قالت لي إن هذه المتاحف تحول "الإنسان" إلى "شيء". إن السكان الأصليين في هذه المتاحف يفقدون إنسانيتهم، ويتحولون إلى تحفة يزورها السياح وينبهرون بها كما ينبهرون بقطعة أثرية. تذكرت وأنا أستمع إلى كلامها كتاب "الاستشراق" لإدوارد سعيد.
في بيت الصديق اليهودي نوعام رأيت خريطةً معلقةً على الحائط للولايات المتحدة، لكن بدلاً من أن تسمى عليها أسماء الولايات مثل كاليفورنيا وإلينوي وتكساس، فإنها تسمي في كل منطقة اسم الشعب الأصلي الذي كان يقطنها قبل الغزو، وهو ما يدل على أن السكان الأصليين لم يكونوا جسماً واحداً مختزلاً في تسمية "الهنود الحمر"، بل كانوا شعوباً منتشرةً في القارة لكل شعب منهم نطاق سيادته وثقافته وأعرافه؛ هذه الخريطة هي محاولة تذكير بإنسانية هؤلاء السكان الأصليين وقوة حضورهم، على عكس التسمية الاختزالية التي أطلقها عليهم الغزاة " الهنود الحمر"، والتي جاءت من اعتقاد كولومبوس أن أمريكا هي الهند حين كان في طريقه لجلب البهارات. والحمر إشارة إلى لون بشرتهم الذي يميل إلى الحمرة، وهذه التسمية حجبت التفاصيل الثقافية والإنسانية الغنية لحياة هؤلاء.
في محاولة الضمير الأمريكي للتصالح مع قصة السكان الأصليين، يذهب الناس مسالك شتى، فهناك التيار التقدمي الذي يعد صديقي نوعام وخريطته مثلاً دالاً عليه. هذا التيار يغلب المبادئ على البراغماتية وأفراده يناضلون في سبيل القيم الإنسانية والعدالة، لذلك يناصرون قضايا السكان الأصليين، ولا يجدون حرجاً في تسمية ما حدث بحقهم بأنها جريمة استعمارية.
وهناك دعوات للاعتذار، وهناك دعوات للتوبة عبر إعادة أراض لبعض القبائل وجعل رواية السكان الأصليين وثقافتهم أكثر مركزيةً في تاريخ البلاد وثقافتها العامة وروحها، لكني لست متأكداً من قوة انتشار هذا التوجه.
هناك من الأمريكيين من لا يحب أن يتذكر القصة كي لا تنغص عليه الذكرى حاضره، وهناك من يرى أن هذا الخطأ هو خطأ الأجداد وليس على الأبناء وزر تحمله، لكن صديقي جهاد يرد على هذا الرأي بأن أبناء اليوم قد ورثوا الامتيازات التي راكمها الأجداد عن طريق الجرائم، وما داموا ينعمون بالامتيازات والثروات فإن على عاتقهم مسئوليةً أخلاقيةً لتصحيح جرائم الأجداد.
هناك رواية شائعة بأن نسبةً كبيرةً من السكان الأصليين ماتوا بسبب عدم امتلاكهم مناعةً ضد الأمراض المعدية التي حملها الأوروبيون معهم، مثل الجدري والكوليرا، وهناك من يرى أن الغزاة الأوربيين لهم فضل على السكان الأصليين الذين كانوا برابرةً همجيين كفاراً، وأن المستوطنين حملوا إليهم مشعل الهداية والإيمان والتنوير.
لا يمكن إخفاء الدور الديني في قصة نشأة أمريكا وتوسعها، وفي ذلك يشير منير العكش في كتابه "أمريكا والإبادات الجماعية" أن الغزاة الأوائل كانوا مشبعين بفكرة أنهم شعب الله المختار، وأنهم تمثلوا في تعاملهم مع السكان الأصليين ما ورد في التوراة حول إبادة الكنعانيين إذ "أمر الله يشوع أن يبيد الكنعانيين"، وكما كان يشوع يحمل رسالةً إلهيةً، فإن الغزاة كانوا يحملون رسالةً إلهيةً في التعامل مع السكان الأصليين.
ومن أدلة حضور الروح الدينية في فكرة الغزو كما يشير العكش تسمية المهاجرين الأوائل بالـحجاج، وابتداعهم لعيد الشكر الذي لا يُحتفل به إلا في الولايات المتحدة وكندا، وكتاباتهم التي وصفت الأرض الجديدة بـ"أرض كنعان الجديدة" التي منحها لهم الله ليقيموا فيها مملكة الرب على الأرض ويعيدوا مجد إسرائيل.
اللافت أن هذه الروح الدينية التي تبرر غزو الآخر وانتهاك حقه الإنساني ظلت مصاحبةً لأمريكا بعد ذلك. ففي عام 1845، كانت مساحة الولايات المتحدة أصغر كثيراً من مساحتها الحالية، إذ كانت ولايات تكساس، ونيومكسيكو، ويوتا، ونيفادا، وأريزونا، وكاليفورنيا، وأجزاء من كولورادو وولاية وايومنغ.. تابعةً لسيادة المكسيك، لكن الأمريكيين قرروا أنهم يجب أن يتوسعوا أكثر نحو الغرب والجنوب. وفي هذا العام 1845 كتب كاتب أمريكي يدعى جون أوسوليفان: "القدر الواضح لنا أن نتوسع في القارة المخصصة لنا من العناية الإلهية لنوافي الازدياد الطبيعي للسكان بالملايين كل عام".
كلمة "القدر الواضح" (MANIFEST DESTINY) أصبحت شعاراً عاماً للتوسع الأمريكي الذي انتهى بضم أكثر من نصف المكسيك، بل ربما لا تزال هذه الكلمة نشطةً في توجيه العقلية الأمريكية في غزواتها الخارجية المعاصرة.