ما الذي يحدث في المنطقة العربية بالضبط؟ لقد أصبحت كل الأحداث تتفاعل معا وتنصهر؛ رغم تضادها وتسير في طريق مفتوح لا نرى له نهاية بالعين المجردة.. تتداخل الأحداث معاً وتتشابك مع بعضها البعض، وكأن هنالك أيادي تلعب في الخفاء وتعيد خلط الأوراق لترتيب أوضاع جديدة في المنطقة على هواها وطبقاً لمصالحها، وهي المستفيدة الوحيدة من كل ما يحدث فيها..
بالأمس تُسقط
إيران طائرة أمريكية مسيرة (غلوبال هوك) فوق خليج "هرمز"، تبلغ قيمتها نحو 200 مليون دولار، وترامب يهدد ويتوعد إيران بضربة عسكرية، فينتشي "ابن سلمان" ويسعد لأن ملياراته التي ملأ بها الخزانة الأمريكية لم تذهب سدى، وأن أمريكا ستقوم بالحرب على عدوته بالنيابة عن مملكته.. ولكن يا خسارة، لم تدم فرحته طويلا، إذ سرعان ما سرقها منه ترامب كما يسرق أمواله في غفلة، وتراجع وقال إنه أوقف ضربة ضد ثلاثة مواقع إيرانية قبل تنفيذها بعشر دقائق، عندما أخبره مستشاروه باحتمال قتل 150 إيرانيا، وقال إنه لا يسعى للحرب مع إيران، ودعاها لحوار بدون شروط مسبقة!
لقد خاب أمل ولي العهد المغرور بصديقه ترامب؛ لأنه لا يريد أن يفهم أن الدول لا تشن الحروب لحساب غيرها بل تخوض غمارها لحساباتها فقط.. يستعجل بالحرب المدمرة للمنطقة كلها، والتي دون أدنى شك سوف تصب في صالح أعدائها، وهو الغارق في مستنقع اليمن وغير القادر على صد هجمات جماعة صغيرة محاصرة بتحالف دولي، في عمق أراضيه، وهو في سكرته لا يعي ولا يدرك أنه هو الذي سيدفع ثمن الحرب، سواء من خزائن بلاده أو من خرائطها، أو كليهما معا..
وقبلها بأقل من أسبوعين، تعرضت ناقلتا نفط لهجوم في خليج عُمان، مما تسبب في انفجار هائل واشتعال الحريق، فكيف حدث هذا بعيداً عن أعين الأقمار الاصطناعية الأمريكية التي تراقب المياه الدولية والإقليمية على مدار اليوم بالدقيقة والثانية، وترصد كل شاردة وواردة فيه؟!
كيف لا تعلم أمريكا التي عثرت بعد تفجيرات الحادي عشر من أيلول/ سبتمبر بلحظات، على جوازات سفر المتهمين من تحت أنقاض ناطحات السحاب المدمرة في مانهاتن ومن بين الطائرات المحترقة، الجهة أو الدولة التي قامت بهذا الهجوم؟!
إنه مما لا شك فيه، أن أمريكا تعرف الدولة التي قامت بهذا الهجوم، كما تعلم مَن الذي قام بالهجوم السابق على الميناء الإماراتىي وعلى ناقلتي البترول السعودية الشهر الماضي.. أمريكا تعلم مَن الذي أراد أن يشعل المنطقة قبل أن يشعل الناقلتين، ومَن يريد أن يُسعر الأرض ليحدث بركاناً حارقاً، ويؤجج الأوضاع ويستدعي الحرب المجنونة في
الخليج؛ التي لو حدثت فلن تبقي ولا تذر شيئاً في الخليج!
أمريكا تعلم مَن المدبر ولكنها لا تفصح عنه، بل إنها تقوم بالتورية عليه والمراوغة لتكسب مزيداً من المكاسب عن طريق الابتزاز.. فها هو الرئيس الأمريكي "ترامب" يقول في لقاء مع قناة "فوكس نيوز" إن إيران نفذت الهجوم على ناقلتي النفط في خليج عُمان، وقبله بيوم اتهم وزير خارجيته "بومبيو" إيران أيضا، دون أن يقدما الدليل، وكأنها معزوفة اتفقا عليها! ذكرتنا بمعزوفة وزير خارجية أمريكا الأسبق "كولن بول" إبان حكم "بوش" الأبن في مجلس الأمن، واتهامه العراق بامتلاك أسلحة (كيماوية) أسلحة الدمار الشامل، وتقديمه فيديوهات مفبركة كانت مدعاه لسخرية العالم، وكانت الذريعة التي اتخذوها لغزو العراق..
إنه لاتهام خطير إذا أخذناه على محمل الجد، ولكن لا بد أن نتساءل ما مصلحة إيران في التصعيد وإشعال نيران الحرب في الخليج، وهي الدولة المحاصرة اقتصادياً وهو بمثابة الحرب غير المعلنة عليها؟ كما أن توقيت هذا الهجوم مريب ومثير للكثير من الشبهات، كما قال وزير الخارجية الإيرانى "محمد جواد ظريف"، فناقلتا النفط مرتبطتان باليابان، وقد وقع أثناء زيارة رئيس الوزراء الياباني "شينزو آبى" لإيران، وبالتحديد أثناء مقابلته للمرشد الأعلى "آية الله خامنئي". فما هي الرسالة التي أراد مرتكبو الهجمات أن يرسلوها لإيران؟ وخاصة أنها وقّعت عقود تجارية مع اليابان، ومن بينها بيع النفط الخام، وهو ما يخالف العقوبات الأمريكية على إيران، والتي تحظر شراء النفط الإيراني؟
لقد كررت إيران مراراً وتكراراً أنها لا تسعى للحرب مع أمريكا، وكذلك أمريكا أعلنت أكثر من مرة أنها لا تريد الحرب مع إيران، وأن قواتها في المنطقة لحماية مصالحها فقط إذا نفذت إيران تهديدها وهاجمتها. ولقد قال ترامب مؤخراً أن الحرب على العراق قد كلفت الجيش الأمريكي الكثير من الأعباء، مما يعنى أنه لن يكرر هذه التجربة مرة أخرى، وهذا أيضا ما تعهد به أمام ناخبيه إبان الحملة الانتخابية للرئاسة.
لقد طلب ترامب منذ شهر تقريبا الحوار مع إيران، وترك أرقام هاتفه مع الجانب السويسري ليهاتفه الرئيس الإيراني، وقال إنه لا يريد إسقاط النظام في إيران، بل يريد تهذيبه. ولقد جاءت زيارة رئيس الوزراء الياباني في إطار هذا الحوار كوسيط، حاملاً رسالة من ترامب..
إذن مَن الذي يزعجه هذا الحوار ويريد أن يُفشله قبل أن يبدأ، ويريد الحرب في الخليج ويسعى إليها سعياً ولو بطرق ملتوية؟!
الوحيد صاحب المصلحة في تفجير الوضع في الخليج هو الكيان الصهيوني، ولهذا لم ولن تفصح أمريكا عما سجلته أقمارها الإصطناعية عن مرتكبي الانفجار في بحر عُمان، ولهذا أيضا لم تمنع حدوثه!
الكيان الصهيوني يخشى من برنامج إيران النووي، وتنامي نفوذ إيران وتصاعد قوتها في المنطقة. لقد هدد رئيس الوزراء الصهيوني "نتنياهو" مرات عدة إيران، وأعلن أنه لأول مرة في تاريخ إسرائيل تصبح العلاقات العربية في أحسن حال، وأنهم سوف يشكلون محورا عربيا إسرائيليا لمواجهة إيران!
هذا المحور الذي يتكلم عنه نتنياهو هو تحالفه مع دولتي السعودية والإمارات اللتين تشاركانه ذات المخاوف من إيران، ويريد الثلاثة إيقاف برنامجها النووي بأي وسيلة، حتى لو أدى الأمر إلى شن الحرب. ومن أجل هذا الهدف ستستمر المؤامرات في المنطقة، وسيزداد
الصراع، وستتصاعد الأدخنة كل حين، فلا خير في أمة تتحالف مع أعدائها وتتبنى أهدافهم..
ولكن ما موقف أمريكا من كل ما يحدث؟
أمريكا تمسك بخيوط اللعبة منذ البداية، تعرف متى تحركها، وكيف تحركها، وإلى أين تحركها!
أمريكا تعلم تماماً متى وكيف تشعل النيران في المنطقة، ومتى وكيف تطفئها عندما تحصل على مكاسب وغنائم هذا السعير الملتهب؛ الذي ستكون دول الخليج هي وقود النار فيه وليس غيرها. ولكن حكام الخليج لا يفهمون ولا يتعلمون من دروس التاريخ، ويكررون نفس الأخطاء كما فعلوا إبان حكم صدام للعراق، بالهرولة إلى أمريكا والارتماء في أحضانها لحماية عروشهم الهاوية، ولا يرون يدها التي تطعنهم من الخلف، وإن كانوا يتغاضون عن اليد التي تضع في جيوبهم لتأخذ كل ما فيه وهم طائعون!!
ولكن هل أحرج الكيان الصهيوني أمريكا بهذه العملية الاستخباراتية؟ ربما، لكنها ليست المرة الأولى التي تضع أمريكا في مثل هذه المواقف الحرجة. فعلى سبيل المثال لا الحصر، فقد سبق وأن قامت بقصف المفاعل النووي العراقي دون علم أمريكا، مما دفعها للتصويت بالإجماع في مجلس الأمن بإدانة إسرائيل عام 1981، وحينما قصفت السفينة الحربية الأمريكية "ليبرتي" أثناء حرب حزيران/ يونيو 1967، وهو ما أدى لمصرع 35 وإصابة ما يزيد عن 180 أمريكياً. وقد رفضت أمريكا حينذاك كل التبريرات؛ لأنها كانت تعلم علم اليقين أن إسرائيل هاجمتها عن "عمد"، كما كشفتها 14 نقطة مراقبة، وهذا ما أكده الأرشيف الأمريكي الذي نشر عام 2003، مما يعنى أن الكيان الصهيوني لا يتورع عن عمل أي شيء لتحقيق مصالحه الذاتية، حتى لو تناقض ذلك مع مصالح وسياسة أمريكا (الراعي الأكبر له)، وتوريطها بطبيعة الحال بمثل هذه العمليات..
سبق هجوم بحر عُمان بساعات قصف مطار أبها، جنوب السعودية، بصواريخ كروز من جماعة الحوثي، في تطور نوعي خطير للحرب العبثية الدائرة بين السعودية وجماعة الحوثي منذ أربعة أعوام، والتي يدفع ثمنها المواطن اليمني. فقد قُتل وأصيب الآلاف من أبناء الشعب اليمني بالصورايخ الذكية والقنابل الفوسفورية المحرمة دولياً، وزحفت إليه الأوبئة وحصد الطاعون ألاف الأرواح، وهُدمت منازلهم وحُرقت مزارعهم وجُرفت أرضهم، ولا يزال الأمير المغرور "ابن سلمان" يواصل حربه المجنونة، ويواصل تدميره لليمن السعيد والذي أصبح تعيساً بفعل هذا الأخرق!
وهاهم الحوثيون يردون عليه بالطائرات المسيرة التي أصبحوا يستخدمونها بكفاءة قتالية وهجومية عالية في العمق السعودي بشكل شبه يومي، وضد أهداف استراتيجية، مثل المطارات وخطوط النفط..
كل هذا ليس ببعيد عن الجرائم التي يفعلها المجرم حفتر ومليشياته المرتزقة في مدينة طرابلس الليبية، وليس بعيداً أيضا عما يفعله السفاح بشار الأسد وسيده بوتن في حمة وإدلب السوريتين، وكلها تصب في ورشة البحرين التي انعقدت لتنفيذ الشق الاقتصادي مما تُسمى "
صفقة القرن".. إنها المكسبات الصناعية الضرورية لمذاق الطبخة قبل تقديمها على المائدة العامرة بالمشهيات، فعنوان المائدة "الازدهار من أجل السلام"، والتي حضرتها مصر والأردن والمغرب والسعودية والإمارات، وغابت عنها فلسطين، صاحبة القضية التي تقام على شرفها هذه المائدة!
كل أحداث المنطقة متداخلة معاً في عملية خبيثة لخلط الأوراق ببعضها البعض، وإعادة تشكيل الشرق الأوسط من جديد بأيد صهيونية، لتصبح هي اليد العليا والقوى المهيمنة في المنطقة، والكل تابع لها ويدور في فلكها..