علم الاجتماع هو العنوان السائد في جامعات العالم لدراسات المجتمعات
وثقافاتها وتنظيمها، وهو سائد في الجامعات العربية أيضا. وبرغم تدريس هذا العلم في
جامعاتنا العربية على مدى سنوات طويلة، إلا أنه كما يبدو لم يساهم أصحابه
والمختصون به حتى الآن في جمع العرب ليجتمعوا معا.
وعلى
عكس الاجتماع، ازداد العرب مع الزمن تفرقا وتمزقا، وطغت على مجتمعاتهم المحلية
الانقسامات السياسية والقبلية والعائلية والمذهبية والعرقية.. إلخ. ولم ينجح علم
الاجتماع حتى الآن في إنجاز اجتماع عربي، وربما تكون أسس ومقومات تدريسه غير صالحة
أو غير مناسبة للمجتمعات العربية. صحيح أن ابن خلدون العربي كان أول من صاغ أسسا
لدراسة المجتمعات، لكن النظريات الغربية هي السائدة في العملية التدريسية
والمقاربة العلمية للعلم.
وفي
هذا ربما نقول إن المنهجية العلمية الغربية المتبعة في دراسة علم الاجتماع لا
تنسجم مع متطلبات التدريس في الساحة العربية. فلكل مجتمع خصوصيته، وما يمكن أن
يكون مفيدا في مجتمع معين أو لمجتمع معين، قد لا يكون كذلك لمجتمعات أخرى. ولكل
مجتمع قيمه وعاداته وتقاليده وثقافته التي يتميز بها، ومن المحتمل أن المقاربات
العلمية الغربية لا تطيب للنفوس العربية ولا تتسلل إلى داخلها، وتبقى مجرد معلومات
تدريسية بدون انعكاسات عملية.
إذا
كان علم الاجتماع لا ينفع في دفع عملية التماسك الاجتماعي والترابط عند العرب إلى
الأمام، فلماذا لا نجرب مقاربة تدريسية مختلفة عن مقاربة أهل الغرب؟ أو لماذا لا
نصيغ علما جديدا نسميه علم الافتراق العربي؟ وبدل أن ندرس أو نركز على مقومات
التماسك الاجتماعي، ندرس أو نركز على أسباب الافتراق العربي وضعف التماسك
الاجتماعي عسى في ذلك ما يساعدنا على صياغة حلول يمكن أن تتوافق مع النفسية
العربية. أي، لماذا لا نعكس المسألة ويكون تدريسنا مقلوبا وليس مباشرا؟ وبسبب كثرة
الخلافات على الساحة العربية، فإن هناك ما يبرر تطوير علم الافتراق لما فيه من
توعية مستمرة بإخفاقات المجتمعات العربية والأمراض الاجتماعية التي تعاني منها.
تدريس
علم الافتراق يتناسب مع فكرة الصدمة الضدية التي يتبعها سياسيون بهدف استفزاز
الناس واستنفارهم لتحقيق إنجاز معين. الصدمة الضدية تستغل مقولة صراع الأضداد، وأن
الإنسان يبقى في صراع مستمر مع نفسه، مما يدفعه إلى البحث عن سبل التقدم وإثبات
الذات. ولولا صراع الأضداد لكان تقدم الإنسان في مختلف مجالات الحياة محدودا جدا.
الإنسان
لا يعجبه وضعه القائم، وهو دائما يسعى إلى تحقيق وضع أفضل. إنه دائم السعي نحو
التطوير والتحسين. وعلى الأقل هو يملّ ما هو فيه، فيفكر بأساليب ووسائل القفز من
الوضع القائم إلى وضع جديد، وهكذا يستمر التاريخ في التغير. وجدلية الصدمة تقول
إنه كلما واجهت الإنسان بأزماته أو أمراضه أو إخفاقاته، تحفزه أكثر نحو القيام
بالتغيير والتعديل. أي أن التركيز على مساوئ التركيبة الاجتماعية العربية وعلى
الأمراض الاجتماعية؛ ينشّط الرغبة والدافعية لدى الإنسان العربي ليغير ما هو فيه.
بهذا الأسلوب التدريسي تتم صناعة التحدي للإنسان العربي، وغالبا يولد التحدي تحديا
في المقابل، وإن لم يولد تحديا، فإن تطوير روح التحدي يصبح جزءا من العملية
التربوية سواء كانت في المدارس أو الجامعات.
يتطلب
تطوير علم الافتراق العربي جهودا علمية واسعة وطواقم أبحاث من خبراء عرب ومختصين،
بخاصة أنه علم عربي خاص لا يستند إلى نظريات اجتماعية غربية جاهزة نابعة من
التجارب الغربية. علم الافتراق العربي ينبع أولا من التجربة العربية، ولا بد أن
يكون فرسانه العلماء من العرب الذين يعرفون مجتمعاتهم ويخبرونها، ويعون تماما
التركيبة الاجتماعية العربية والأمراض الاجتماعية التي تعاني منها.
لم
يتقدم العرب حتى الآن جيدا نحو الوحدة الوطنية، ولا نحو الوحدة القومية. كان لدى
العرب طموح بتحقيق الوحدة العربية، لكن آمالهم تراجعت ليصبح الشعار التضامن
العربي، ثم تراجعوا إلى العمل العربي المشترك، واستمر التراجع ليصلوا إلى مرارة
التمزق الوطني. لقد انقسمت المجتمعات حديا فيما بينها، ووجدت الانقسامات منظرين
ومشجعين وممولين وإعلاميين. لقد كان نصيبنا الخيبة، وحتى الآن ما زال بعضنا يبحث
عن نفسه في ثنايا الاضمحلال الاجتماعي العربي.
على
الرغم من أن عوامل دفع العرب نحو الاجتماع والوحدة قوية وظاهرة للعيان، إلا أنه
يبدو أن عوامل الافتراق أقوى منها، والدليل على ذلك أن الصراعات الداخلية والبينية
المذهبية والجهوية والعائلية والقبلية والعرقية على المستويين القطري والقومي تشتد
مع الأيام ولا تنطفئ. وإذا كان لنا أن ندفع باتجاه الوحدة، فإن علينا التركيز على
دراسة عوامل الافتراق عسانا نتمكن من السيطرة عليها والتخلص من بعض مفاعيلها.