منذ أن أعلن عن نية تركيا استيراد منظومة أس 400 الروسية والجدل في
الأروقة السياسية لم يتوقف، ومع مضي الوقت واقتراب الأجل المحدد للتسليم، كان
كثيرون يراهنون على أن الموقف التركي سوف يتغير في لحظة ما، وعلى أن أنقرة لا يمكن
أن تمضي في هذه الصفقة، التي قد تعني التضحية بالحلفاء الأطلسيين، وعلى رأسهم
الولايات المتحدة.
وزارة
الدفاع الأمريكية لم تتوقف عن إرسال التحذيرات والتهديدات حتى قبيل أيام من بدء
عملية التسليم، في حين بدا الجانب التركي وكأنه قد حسم أمره بشكل نهائي، بالإضافة
إلى السياسة واستبعاد المضي في تحدي الأمريكيين، كان البعض يشير إلى المسائل
التقنية المتعلقة بمخاطر الدمج بين المنظومتين العسكريتين الروسية والأمريكية، كما
ظهرت وجهة النظر التي ركزت على البعد الأمني، وما يمثله هذا التعاون الجديد بين
أنقرة وموسكو من انكشاف للتقنية الأطلسية. لكن كل هذه المبررات لم تكن كافية لتحمل
تركيا، أو روسيا التي ظهرت أيضا بمظهر المتحدي، على تغيير ما أعلن وما تم الاتفاق
عليه مسبقا، بل على العكس، تم الإعلان عن تسريع آجال التسليم، وهو ما بدأ فعليا
أواسط هذا الشهر ضمن عملية يتوقع أن تستمر لعدة أسابيع.
بالنسبة
للخبراء الأتراك فإن الحديث عن مخاطر الجمع بين المنظومتين ليس مقنعا، وهو ما
جعلهم يقترحون في وقت سابق قيام جهة محايدة بالنظر في هذه الفرضية بشكل علمي، خاصة
ما يتعلق بتأثير تفعيل أس 400 الروسية على مقاتلات أف 35 الأمريكية الأطلسية، وهو
مقترح جدير بالنظر لكون تركيا اشترت بالفعل المقاتلات الأمريكية، التي ترى الآن
الولايات المتحدة أن احتجازها أو «تعليق» تسليمها أمر لا بد منه. حتى الآن فإن هذه
المنظومة الصاروخية الدفاعية التي تعد من الأكثر تطورا وفعالية في حماية الأجواء،
إن لم تكن الأكثر على الإطلاق، لم تصبح بعد بالكامل بين يدي تركيا، فنحن ما نزال
في مرحلة بدء التسليم والانتشار، وهي عملية معقدة سوف تستمر، بحسب ما أعلنه الرئيس
التركي رجب طيب أردوغان، إلى شهر إبريل/نيسان من العام المقبل، لكن السؤال عن ردود
الفعل الأمريكية لا يعد مبكرا، حيث لا نعلم إن كانت واشنطن التي يسيطر عليها صقور
ومتشددون ويحكمها شخص مثل دونالد ترامب سوف تنتظر حتى اكتمال عمليات التسليم
والتشغيل، قبل أن تقوم بما تعتبره ردا لازما، خاصة مع وضعنا في الاعتبار عامل
انتخابات العام المقبل وسعي ترامب لكسب أصوات اليمين، لكن إذا ما تجاوزنا هذه
النقطة فإن هذا المدى الزمني الممتد سيمثّل فرصة للأمريكيين لإعادة التفكير بشكل
غير متعصب في ما يجب فعله.
في
الواقع فإن محاولة تخمين ما سوف يستقر عليه القرار الأمريكي أمر شديد الصعوبة، فمن
ناحية لا تود الولايات المتحدة التضحية بشريك مهم يملك ثاني أكبر جيش في الحلف،
ولا تريد أن تجعل دولة في مكانة تركيا الجغرافية وقوتها البشرية تنضم إلى قائمة
الأعداء، لكن من ناحية أخرى فإنه لا يمكن التقليل من حجم الأصوات المتشددة داخل
الإدارة الأمريكية، التي ظلت تدعو بشدة للرد على تركيا ومعاقبتها، لتجرؤها على نقل
علاقتها مع روسيا من مجرد صلة تجارية واقتصادية مقبولة على مضض إلى مرحلة العلاقة
العسكرية والأمنية.
فكرة
العقوبات التي يلوّح بها الأمريكيون نفسها ليست واضحة، فهل المطلوب عقوبات
اقتصادية أو عقوبات تتمثل في تقليل التعاون الدفاعي والتنسيق الأمني؟ هذا السؤال
ليس سهلا لأن الولايات المتحدة لا تريد، كما ذكرنا، التضحية بحليف أساسي داخل
معسكرها، ولكن أيضا لأنها لا تريد أن تمارس عقوبات تدميرية غبية يمتد أثرها إليها
هي أيضا في نهاية المطاف.
استعادة
الكرامة قد تكون الكلمة المحورية هنا بين تركيا التي أوصلت رسالة قوية فحواها، أن
العالم أكبر بكثير من ظل الولايات المتحدة، خاصة أنها ظلت تذكر بأن خطوة التعاون
مع روسيا جاءت بعد رفض الأمريكيين بشكل غير مبرر بيعها صواريخ باتريوت، التي ظلت
تطالب بها لسد احتياجاتها الأمنية، والإدارة الأمريكية الحالية، التي ترى أن
هيبتها صارت محل تشكيك، بعد أن بدأت بعض الدول تعلن عدم اكتراثها بالعقوبات أو
التهديدات، وهو ما يستوجب بحسب منطق الصقور القيام بإجراءات حاسمة تستعيد مكانة
الولايات المتحدة. ظهرت عقلية إبراز «الهيبة الأمريكية» في التشدد إزاء الملف
الإيراني، والحرص على إثبات فشل الخطة التي أعدها الأوروبيون للالتفاف على
العقوبات، عبر خلق باب خلفي يمكن عبره تبادل المال وتغذية الاقتصاد الإيراني، حيث
توصل حتى أكثر الأوروبيين حماسا لأن تلك الفكرة لن تكون مفيدة في ظل النظام المالي
الدولي الحالي، الذي يسيطر عليه الأمريكيون.
فكرة
التشدد والعقوبات، وإن وجدت رواجا وإنصاتا من الرئيس الأمريكي الحالي، إلا أن من
المشكوك فيه أن تكون موفية للغرض الذي تم التفكير فيها لأجله، فكما أنتج الصوت
المتشدد ضد طهران مجموعة من التعقيدات والمخاطر الإقليمية، فإن العقوبات الأمريكية
من قبيل منع تركيا من الحصول على طائرات أف 35، أو من المشاركة في إنتاجها لن تؤدي
بأي حال لاستسلام أنقرة أو لاعتذارها، بقدر ما سوف تؤدي لمزيد من التقارب مع روسيا
التي تعرض بالفعل بدائل عسكرية لا يستهان بها من ناحيتي الجودة والسعر، كما لا
يستبعد أن يؤدي تزايد الضغوط الاقتصادية لتصرف تركيا بشكل أحادي في ما يتعلق
بالملف السوري، ومسار عملياتها العسكرية، خاصة في المناطق القريــــبة من حدودها،
وهو الأمر الذي يهدد بنســف الترتيبات الأمريكية والأطلسية في المنطقة.
المقارنة
بين الحالتين التركية والإيرانية تفرض نفسها، رغم أن مجرد التفكير بها يفرغ
«التحالف» من معناه وجدواه، حيث يتم وضع الحلفاء في مرتبة واحدة مع دولة ظلت على
مدى عقود محتفظة بمقعدها على قائمة الأعداء. يفتقد الجانب الأمريكي أيضا الحجة
المنطقية التي يمكن أن يقدمها لحلفائه الآخرين وللعالم من أجل تبرير لغته
التصعيدية ضد تركيا، فإذا كان الاعتراض على تكسير لوائح الحلف، فهو اعتراض غير
مقبول، لأن لا شيء في تلك اللوائح يمنع الأعضاء من امتلاك أسلحة من الخارج. أيضا
يعلم الأمريكيون وغيرهم أن ما فعلته تركيا لم يكن سابقة، وإنما امتلكت دول أخرى
سلاحا من خارج منظومات الحلف، بل من روسيا نفسها، بدون أن يثير الأمر حفيظة أحد.
ربما كانت كل هذه الاعتبارات وراء إلغاء المؤتمر الصحافي الذي كان يهدف لإعلان
الموقف من هذا التطور الجديد، الذي كان من المتوقع أن يتم فيه الإعلان عن عقوبات
أو ضغوط قاسية ضد أنقرة، وربما كان ذلك أيضا وراء اللغة الدبلوماسية المعتدلة التي
تحدث بها دونالد ترامب مؤخرا حول الموضوع.
حتى
اليوم لا يوجد قرار واضح حول العقوبات المقترحة في ما يتجاوز الحرمان من أف 35
الذي سيتدرج هو الآخر لمدى بضعة أشهر. التعليق أو الحرمان من هذه المقاتلة
الأمريكية سوف يشكّل خسارة مادية وفنية بالنسبة للأتراك، الذين كانوا جزءا من
التصنيع والإنتاج، لكنها تظل خسارة تحت السيطرة ما لم يستقر الرأي الأمريكي على
عقوبات أكثر حدة وإيلاما.
عن صحيفة القدس العربي اللندنية