خامسا:
الصراع من جانبنا ليس صفريّا حتى لو أرادوا هم ذلك:
وأقصد بالصراع الصفري أننا كمسلمين أصحاب رسالة ومبدأ وقيم عُليا، وليس غايتنا من الصراع مع
الغرب هو إفناؤه أو تدميره، حتى لو أرادوا هم لنا ذلك.
وقواعد الإسلام صارمة وواضحة في هذا الشأن، فنصوص القرآن والسنة تُحرم قتل الأطفال والنساء والشيوخ والمسالمين الآمنين، أو ما يسمى حاليا بالمدنيين غير المحاربين. قال تعالى: "وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ" (البقرة: 190)، فالأمر هنا بقتال من يقاتلك فحسب، مع نهي تحريمي واضح في تجاوز ذلك.
ولا تقتصر قواعد الإسلام في الحروب، سواء كانت دفاعية أو هجومية، على ذلك، بل تحرم إهلاك الحرث وقطع الأشجار، أو ما يسمى حاليا بالحفاظ على البيئة. وأوضح النصوص في ذلك هو ما قاله سيدنا أبو بكر الصديق رضي الله عنه لأحد قادة جنوده: "ولا تُغرِقُوا نَخلا، ولا تَحرِقُوا زَرعا، ولا تَحبِسوا بَهيمة، ولا تَقطَعُوا شجَرة مُثمِرة" (تخريج مسند أبي بكر: 12).
بل إن الإمام الأوزاعي قال: "لا يحلّ للمسلمين أن يفعلوا شيئا مما يرجع إلى التخريب في دار الحرب؛ لأن ذلك فساد، والله لا يحب الفساد".
وهذه المبادئ سارية إلى يوم القيامة في قواعد الاشتباك والحرب، وهناك خلاف فقهي معتبر بين العلماء؛ ليس على أصل المبدأ، ولكن على أحكام الضرورة الحربية حين تحدث، وهذا باب عظيم في الفقه الإسلامي يمكن الرجوع إليه في مصادره المعتبرة.
هذه المقدمة ضرورية لفهم استراتيجية إدارة الصراع، فهي دفاعية في المقام الأول، هدفه الأسمى حفظ الأرواح (غير المحاربة) والعمران، وتعبيد الناس لله بلا إكراه، وليس الهدف تخريبيّا تدميريّا.
حتى في ما يعرف إسلاميا بجهاد الطلب أو الغزو لفتح البلدان، فهو في جوهره كذلك دفاع عن المظلومين والمستضعفين، وحرب على الذين يقفون بين الناس وحرية اختيارهم لعلاقتهم بالسماء.
ومن ثم، وأنت تسعى لامتلاك أدوات ومظاهر السيادة، لا تغيب هذه الأهداف السامية عنك. وقد يفهم البعض كلامي هذا خطأ، بأن ذلك يعني قبول الاستباحة لأرواحنا كما يحدث الآن، وبالطبع لم يخطر ذلك في بالي لحظة واحدة، فالسعي لامتلاك مظاهر السيادة، وبالقوة والكفاءة نفسها التي لدى الخصم، هي فريضة استراتيجية وشرعية لتحقيق الردع المطلوب، وتحقيق توازن الرعب، ومنع الاعتداء.
لكن في وقت الاستخدام واحتدام الصراع، تراعى المبادئ العليا التي جاء بها الإسلام، مع مراعاة أحكام الضرورة التي تقدر بقدرها، كما يقررها أهل الاختصاص من العلماء.
إن كثيرا من شعوب الغرب نظرتها عن الإسلام مشوهة؛ بسبب ضعفنا وتخلفنا الحضاري.. إنها عطشى إلى الإسلام، ولكننا نقدمه لها ماء آسنا ملوثا، وليس صافيا كما جاء إلينا.
لنتخيل معا أن الأمة امتلكت مظاهر السيادة كاملة، بل أصبحت أقوى من أعدائها، فهل لنا أن نتخيل مثلا أنها ستدخل حربا مفتوحة تبيد فيها البشر والحجر، كما حصل في الحرب العالمية الثانية، التي تشير الإحصائيات إلى قتل ما يزيد عن 62 مليون إنسان فيها، منهم 18 مليون عسكري والباقي من المدنيين العزل؟
هل هذه النوعية من الحروب الدموية يسعى إليها المسلمون؟ بكل تأكيد لا وألف لا. إن مهمتنا كمسلمين هي إنقاذ البشرية مما هي فيه، لا إهلاكها، والحرب هي موقف اضطراري للدفاع عن النفس أو المظلومين. إن مهمتنا أن نسوق البشر إلى الجنة وليس إلى الجحيم.
وخلاصة هذه النقطة الاستراتيجية، هي أننا لا نستهدف حربا وجودية مع أحد، ولسنا طلاب دمار وهلاك وسفك دماء، لكننا نبني الحصون، ونقوّي القلاع، ونمتلك مصادر السيادة، ونحقق توازن القوى والرعب، ونضرب على يد الظالم وفقط، ولا أحدا سواه. ونحن نفعل هذا، لا تغيب عنا رسالتنا وغايتنا في هداية الناس وإنقاذهم مما هم فيه من شقاء وتعاسة، وإن اختفت مظاهرها خلف الملهيات التي يشغلون بها الشعوب.
سادسا: مؤسسة خطوط المواجهة:
اتسمت الحركات والفصائل التي تواجه الهجمة على الأمة خلال العقود الماضية بسِمَتين أساسيتين:
الأولى؛ أن العمل الحركي (غير المسلح) أخذ الطابع السري في المواجهة، والاعتماد على أشكال التنظيم المختلفة، وفقا للظروف الأمنية الضاغطة على هذه الحركات ومناخ الحريات المتاح أمامها. ورغم أن هذه الحركات نجحت في البقاء والاستمرار تحت وطأة الضغوط التي تتعرض لها، خصوصا في الفترة التي سبقت الألفية الجديدة، للأسباب التي سنوضحها لاحقا، إلا أنها فشلت في عملية التطوير الداخلي لهياكلها وقيمها الإدارية والتنظيمية نتيجة التوسع في ثقافة الكتمان والسرية، وعدم القدرة على تجديد بنية القيادة بها، نتيجة غياب أدوات تداول السلطة مع الظروف الأمنية.
ثانيا: لكن مع بدايات الألفية وربما قبلها قليلا؛ تطورت أساليب وطرق الدولة الحديثة في الرقابة والتتبع والتنصت بمستويات غير مسبوقة، وبفجوات واسعة في الإدراك والاستيعاب بينها وبين هذه الحركات، مما جعل ذلك مسألة السرية تكاد تكون نكتة أو طرفة، حتى أصبح كثير من أعضاء هذه التنظيمات يتندر بأن الأجهزة الأمنية تعرف عنهم أكثر مما يعرفون هم عن أنفسهم. وتلك كانت حقيقة في واقع الأمر، ولا تزال.
وعليه، فقد أصبح الواقع كالتالي، تنظيمات تظن نفسها سرية وبعيدة عن عين الرقيب، تتكلس داخليّا، ويقف نموها وتطورها في مستويات التفكير والقيادة والإدارة بفعل السرية، وفي الوقت نفسه الأجهزة الأمنية تعرف كل ما يدور داخلها بشكل كامل، يفوق حتى معرفة أعضائها أنفسهم.
وبناء على التحليل السابق، يجب على مجموعات التنظيم والحركة أن تلجأ إلى المؤسسية في أعمالها في ظل الدولة الحاضنة، بحيث يتاح لها التطور والعمل والحركة، فضلا عن توفر أدوات حقيقية للرقابة والشفافية والمحاسبة، ومن ثم تتضاعف إنتاجية هذه الحركات عبر منصاتها التي تتطور في ظروف طبيعية، وفي الوقت نفسه تتوفر بيئات صحية مع الدولة الحاضنة، حتى لو اضطررنا للنزول بسلم الأهداف قليلا بما يتماشى مع ظروف الدولة الحاضنة؛ لأن الوقت الحالي يحتاج إلى بناء الجيل وإعداد البنية التحتية اللازمة لإدارة الصراع، ولا يحتاج إلى مواجهات جديدة لا نملك مقوماتها، كما أسلفنا في الجزأين السابقين.
بطبيعة الحال، حديثي هنا مقتصر على الحركات التي تمارس العمل العام أو السياسي، وتستهدف الجماهير بخطابها وحركتها، وليس التنظيمات المسلحة التي يعدّ جزءا رئيسيا من عملها، يعتمد على الكتمان والسرية بدرجات عالية.
لكن الاتجاه إلى المؤسسية في العمل الحركي (غير العنيف) ليس بهذه السهوله المتصورة، وهناك عقبات وتحديات عدة تواجهه، وهو ما سينقلنا إلى مستوى آخر من التفكير، نتناوله في المقال القادم بإذن الله.