انتهينا فيما سبق، إلى أنه لا يوجد نص قرآني يتحدث عن الرجم، وأنه لا يوجد ما يسمى بـ (آية الرجم)، وأنها لم تكن قرآنا ونسخت تلاوة، وبقيت حكما كما زُعم، ونأتي الآن لنقاش مرحلة أخرى من التأصيل الشرعي لقضية الرجم، وهي صلب الموضوع، فإن من يقول بأن الرجم حد يقام على كل من زنى بعد إحصانه، يدلل على ذلك بالسنة النبوية، وما ورد فيها من نصوص وإقامة لحد الرجم فيها.
أهمية دراسة سند ومتن الحديث:
والنصوص التي وردت في السنة حول الرجم تحتاج ـ بلا شك - إلى وقفة متأنية في دراستها، على ألا تقف هذه النظرة عند حدود سند الحديث فقط، فقد وضع العلماء لصحة الحديث خمسة شروط: ثلاثة في السند، وشرطان في المتن، وللأسف فإن كثيرا من الباحثين يعنى بثبوت الحديث من جهة السند، ويغفل عن التدقيق في المتن، ودراسته ونقده نقدا علميا، ودراسة المتن لا تقل أهمية عن دراسة السند.
إن الحديث إنما يصح بمجموع أمور، منها: صحةُ سنده، وانتفاءُ علته، وعدم شذوذه ونَكارته
وأما قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث: "والتارك لدينه المفارق للجماعة"، فهناك خلاف كبير بين الفقهاء، هل القتل هنا لمفارقة جماعة المسلمين، والردة، أم لحمل السلاح على الدولة؟ وهل يقتل المرتد أم يستتاب؟ وهو ما مال إليه كثير من فقهائنا المعاصرين، ونقل عن السلف كذلك.(10)
وما قيل عن قتل النفس بالنفس، والمفارق لدينه التارك للجماعة، يقال هنا عن قتل الثيب الزاني، هل هو هنا عقوبة تعزيرية كما قال به فقهاء معاصرون، أو أنه حد لازم وليس تعزيرا؟ فالنص هنا يفيد فقط جواز قتل الحالات الثلاث، عند توافر شروط ذلك، وليس الإلزام بالقتل، وهو ما قد يدخل في باب التعزير.
وقد ورد الحديث بعدة روايات، منها: "الثيب الزاني" و"زان محصن" و"محصن زنى بعد إحصان"، وأخرجه البخاري ومسلم وأصحاب السنن الأربعة وكثير غيرهم، من طرق عبد الله بن مسعود، وعائشة، وعثمان بن عفان، وجابر، ابن عباس، وأبي قلابة رضي الله عنهم، بألفاط تحل دم الزاني المحصن على العموم، من دون ذكر وسيلة القتل أي: الرجم.
ولكن وردت روايات أخرى للحديث خصصته وصرحت بالرجم، منها(11): "رجل زنى بعد إحصانه فعليه الرجم، أو: فإنه يرجم".(12) وهي رواية هناك من صححها من العلماء كالألباني(13)، ومن ضعف هذه الزيادة كشعيب الأناؤوط (14)، ومن ضعف الرواية كلها من حيث السند.(15)
والحديث لا يتم تناوله بمعزل عن تناول قضية الرجم كاملة في السنة، وبما طبقه النبي صلى الله عليه وسلم فيه، وهو ما سيتضح من استقرائنا لبقية النصوص التي وردت في السنة.
فهل هذا النص يأتي في سياق بقية النصوص التي وردت في الرجم في السنة، من باب أنها كانت مرحلة تشريعية ثم نسخت، سواء على مذهب من يقول بالرجم ـ وهم الجمهور ـ ويختلفون في المراحل، أم على رأي من يراه منسوخا كله، ولم يعد حدا، ويعتبر مثل هذا الحديث مرحلة تشريعية انتهت؟ هذا ما سيتضح عند تناول بقية النصوص في موضوع الرجم في السنة.
الهوامش:
1 ـ انظر: مقدمة العلامة الشيخ شعيب الأرناؤوط لكتاب (الإجابة لإيراد ما استدركته عائشة على الصحابة) للإمام الزركشي بتحقيق د. محمد بنيامين أرول. طبعة مؤسسة الرسالة.
2 ـ رواه البخاري (6878)، ومسلم (1676/ 25) والبيهقي في الكبرى (17006) وفى الشعب (5331)، وابن أبى شيبة (37489). وأخرجه أحمد (3621)، وأبو داود (4352)، والترمذى (1402)، وابن ماجه (2534) عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.
3 ـ رواه أحمد (18295) ومسلم في الإمارة (1852) وأبو داود في السنة (4762) عن عرفجة الأشجعي رضي الله عنه.
4 ـ سيأتي الكلام عن هذا الحديث والذي قبله وتخريجهما، واختلاف علماء الحديث في تصحيحهما، وتضعيفهما، واختلاف الفقهاء في العقوبة.
5 ـ انظر: التعزير في الشريعة الإسلامية للدكتور عبد العزيز عامر ص 309.
6 ـ انظر: جامع العلوم والحكم لابن رجب (1/321،320).
7 ـ لمزيد من التفصيل يراجع: بدائع الصنائع للكاساني (7/246)، والمهذب للشيرازي (2/201) والشرح الكبير لابن قدامة (9/388) والتشريع الجنائي الإسلامي (2/157-159).
8 ـ انظر: التشريع الجنائي الإسلامي (2/168،167) بتصرف.
9 ـ انظر: تحفة الأحوذي شرح الترمذي للمباركفوري (6/374،373).
10 ـ قال عدد من الفقهاء المعاصرين بعدم عقوبة المرتد بالقتل، وفهموا من مجمل النصوص الواردة أن المقصود بذلك هو الخارج على الدولة، أو الأمة بالسلاح مع ردته، فجمع مع الاعتقاد والفكر فرض موقفه بالقوة، والخروج المسلح على المجتمع.
11 ـ انظر: العقوبات التي استقلت بتشريعها السنة النبوية للدكتور محمد أنس سرميني ص: 396،395.
12 ـ رواه أحمد (4353) عن عائشة رضي الله عنها.
13 ـ انظر:إرواء الغليل للألباني (7/254).
14 ـ انظر: مسند أحمد بإشراف شعيب الأرناؤوط (6/409).
15 ـ انظر: الأحاديث الواردة في الحدود والتعزير والقصاص للدكتور عبد الله آل مساعد (2/601-604).
الهلال الصاعد: احتواء العالم المسلم .. حقيقة أم وهم؟ (1)
الإسلام والرجم (5): الرجم شريعة يهودية