إذا كان الانطباع الأوّليّ عن النظام السياسي العربي يقوم على اعتباره كتلةً صمّاء غير مفكِّرة، فإن التمعن في ردود فعل هذا النظام خلال ثورات الربيع العربي تكشف أنه كان قادرا في مرحلة حاسمة من تاريخه على إنقاذ نفسه من السقوط. يتأسس الانطباع الأولي على جملة من المعطيات الأساسية والخلاصات النابعة من تاريخ النظام الرسمي العربي نفسه بقطبيه الأساسيين أي محور الممانعة ومحور الاعتدال. أمّا الفرضية الثانية فتتأسس على معطيات واقعية تمت معاينتها خلال الفترة التي امتدّت منذ الانفجار التونسي الكبير في أواخر سنة 2010 وما تلاه من ثورات تبعتها جملة من الانقلابات وصولا إلى حالة الحرب المسلحة التي انتهت إليها الثورة في ليبيا واليمن وسوريا خاصة.
النظام القمعي ومفهوم الكتلة الصمّاء
يمثّل النظام الحاكم في المنطقة منذ نهاية الخلافة العثمانية (1924) وظهور دويلات سايكس بيكو تباعا كتلة صمّاء قامت على مصادرة الحريات وقمع الرأي المخالف ومنع المعارضة السياسية. هذه الخاصية تكاد تكون خصلة جامعة بين مختلف الأنظمة التي حكمت المنطقة العربية إلى حدود ثورات الربيع سواء كانت أنظمة عسكرية أو وراثية أو أمنية جمهورية. فلا يوجد في كامل البنية السياسية نظام واحد خرج من رحم الانتخابات أو أي شكل آخر من أشكال التأهيل الديمقراطي القادر على إضفاء شرعية ما على نظام سياسي معين.
هذه الخاصية لا تمنع القول بوجود فوارق أساسية بين أنظمة الحكم، وخاصة في ما يتعلق بالدول المحورية الكبيرة من الناحيتين الديمغرافية والجغرافية. مصر أو المملكة العربية السعودية أو الجزائر أو السودان أو العراق أو سوريا هي كلها دول توحدها مقولات القمع والاستبداد والحكم الواحد رغم اختلاف آليات ومنطق الحكم وممارسة السلطة.
يمثّل النظام الحاكم في المنطقة منذ نهاية الخلافة العثمانية (1924) وظهور دويلات سايكس بيكو تباعا كتلة صمّاء قامت على مصادرة الحريات وقمع الرأي المخالف ومنع المعارضة السياسية.
النقطة الأساسية هنا إنما تتمثل في أنّ ردود فعل الأنظمة الحاكمة كانت ردودا موحدّة في ما يتعلق بمبدأ الحريات الفردية والجماعية أو أيّ سعي للتغيير الحقيقي مهما كان نوعه أو مصدره. وهو ما يجعل من مسألة اعتبار النظام الرسمي العربي كتلة واحدة فرضية منطقية خاصة في ما يتعلق بالخصائص الجوهرية التي تتأسس عليها عملية ممارسة السلطة ومراقبة المجتمع والسيطرة على مفاصل الدولة كلّها.
من أهم الأدلة على رجاحة الأطروحة السابقة هي ما ظهر خلال ثورات الربيع من انصهار النظام الرسمي العربي تقريبا في كتلة واحدة. فكيف يمكن أن نفهم أنّ النظام العلماني الليبرالي التونسي في إطار ما يسمى بالنظام الجمهوري يجد ملاذه الأخير في المملكة العربية السعودية التي قبلت بالرئيس الهارب في الوقت الذي رفضت فيه استقباله كل الدول الأوروبية العلمانية؟ كيف يمكن أن نفسر تصالح الأنظمة العربية جميعها تقريبا في ما يتعلّق بالتآمر على ثورات الربيع باستثناء دولة قَطر؟ كيف يمكن تفسير تحالف السلطة العسكرية والوراثية والجمهورية الأمنية ضد موجة التغيير التي قادتها الاحتجاجات الشعبية؟
لا يمكن تفسير كل ذلك دون الإقرار بوجود خيط رابط يجمع بين أركان التنظيم السياسي العربي رغم تنوّع واجهته وما يبدو من اختلاف الواجهة السياسية الخارجية لكل دولة عربية. ثورات الربيع هي الحدث السياسي الوحيد الذي كان قادرا على محو الحواجز بين مختلف تكوينات النظام السياسي العربي وإظهاره على صورة كتلة واحدة موحّدة. إن صورة الأنظمة السياسية العربية باعتبارها أنظمة مختلفة تتشكل وفق محاور متباينة مثل محور الاعتدال ومحور المقاومة مثلا أو من خلال البُنى الرسمية مثل اتحاد المغرب العربي أو مجلس التعاون الخليجي ليست في الحقيقة إلا قناعا يخفي وحدة البناء السياسي في ما يتعلق بقمع التغيير ورفض كل أشكال المطالبة بالحرية والتحرر ومقاومة الفساد.
كيف أنقذ النظام نفسه من السقوط؟
صحيح أن جزءا كبيرا من صمود النظام السياسي العربي إنما يعود إلى تشرذم المعارضة وفقدانها رؤية سياسية واضحة وغياب القدرة والخبرة في التعامل مع المراحل الانتقالية الحاسمة مثل السياق الذي فرضته ثورات الربيع. لقد أخفق الإسلاميون في مصر إخفاقا شديدا تسبب في مذابح وفي ارتدادات سياسية واجتماعية على كامل المشهد الثوري العربي من تونس إلى سوريا مرورا بليبيا واليمن.
لكن المتأمل في جهة الخطاب السياسي للدولة العميقة التي بقيت قائمة بعد سقوط رأس النظام يلحظ أن نسقا كاملا من الخطاب تأسس على جملة من القضايا ومن المحاور التي تم انتقاؤها بعناية شديدة لكي تخاطب الوعي الجمعي العربي بشكل يسمح بإنقاذ النظام من السقوط. كان هدفُ هذا الخطاب إسنادَ حالة القمع التي عمدت إليها السلطة السياسية كما يهدف إلى تبرير الإجراءات القمعية التي عرفتها ميادين الثورات العربية وساحاتها في مصر وليبيا وسوريا خاصة. أما أهم المشاريع التي يستهدفها هذا الخطاب فهي تلك التي تتعلق بتبرير الانقلابات واعتبارها جزءا من مشروع إنقاذ الوطن واستعادة حالة الأمن والأمان.
الأمن والأمان
تمثل ثنائية الأمن والأمان مقولة مركزية في الخطاب السياسي العربي، وهي مقولة تعود جذورها إلى الفترة التي أعقبت نشأة الدولة العربية نفسها. وقد تأسست هذه المقولة على اعتبار حالة الاستقرار الاجتماعي والسياسي مكسبا أساسيا يمكن تقديمه على كل المطالب الأخرى بما فيها حرية التعبير والعدالة الاجتماعية وتوزيع الثروات والحق في التشغيل وغيرها من الحقوق الأساسية للفرد والمجموعة.
كما تستدعي مقولة الأمن والأمان مقولات أخرى مضادة تتمثل في مقولات الفوضى وانعدام الأمن والحرب الأهلية وغيرها من مظاهر انعدام سلطة القانون وغياب الدولة. لقد كانت المنطقة طوال تاريخها الاستبدادي مسرحا لكل أشكال الفوضى من الحروب الأهلية والانقلابات والمجازر والجرائم التي لا تزال صفحاتها الدامية ماثلة أمامنا كما هو الحال في سوريا وليبيا مثلا. تمثل هذه الفصول الدامية كابوسا مفزعا للوعي الجمعي القاعدي الذي يري في هذه المشاهد أرقى أشكال انعدام الأمن، خاصة عندما تلح منصات الدولة العميقة على تذكير الشعوب يوميا بحال سوريا والعراق واليمن وليبيا مثلما هو الحال في المغرب والجزائر والخليج.
هذا المنطق يجعل من حالة الاستبداد والقمع حالة مفضّلة على حالة الفوضى والتحارب الأهلي وهو ما عبرت عنه مقولات القرون الوسطى مثل "سلطان ظلوم غشوم خير من فتنة تدوم". وهو منطق يجعل من ظلم الحاكم ضررا أخف من ضرر الفتنة بل يجد النظام القمعي كل مبررات وجوده من خلال هذه المقولة.
مقولة الفتنة
تمثل هذه المقولة حجر الزاوية في الخطاب الاستبدادي العربي، وخاصة منه المنظومات المقنعة بقناع الدين سواء كانت منظومات وراثية مثلما هو الأمر في منطقة الخليج أو منظومات عسكرية تستعمل المؤسسة الدينية لتبرير القمع مثلما هو الحال في مصر وسوريا وليبيا. نُعتت ثورات الشعوب بأنها فتنة وبأن الاحتجاجات الشعبية التي اكتسحت شوارع البلاد العربية وساحاتها إنما هي وجه من الوجوه الفتنة التي كانت نائمة فأيقظوها. لكن لابد من الإشارة إلى توقيت استعمال هذه المقولة في توصيف الربيع العربي لأن عامل التوقيت كان حاسما في استخدام المقولة وتوظيفها. لم تخرج المقولة كسلاح شرعي يستدعي فترة قاتمة من التاريخ الإسلامي خلال أوج الثورات لكنها خرجت للعلن بعد سنتين تقريبا من سقوط أول نظام سياسي عربي وهو النظام التونسي.
نشطت المقولة في مصر عندما أوعز النظام العسكري إلى مشايخ الأزهر باستخدام كل الجهاز الاصطلاحي والتشريعي الممكن لشيطنة ثورة يناير عبر إلصاقها بالإخوان المسلمين واعتبارها جزءا من فتنة كبيرة تستهدف مصر. كما تسلح المداخلة، وهو التنظيم السعودي الأخطر في ليبيا ومصر، بنفس المقولة معتبرا الثورات فتنة كبيرة وخروجا عن ولي الأمر يجوز معه تكفير صاحبه وإهدار دمه.
كانت المنطقة طوال تاريخها الاستبدادي مسرحا لكل أشكال الفوضى من الحروب الأهلية والانقلابات والمجازر والجرائم التي لا تزال صفحاتها الدامية ماثلة أمامنا
لم تخرج هذه المقولة إلى النور إبان الثورات رغم سعي النظام الرسمي إلى شيطنة الاحتجاجات إعلاميا وربطها بالأجندات الخارجية والسبب في ذلك هو الطابع المفاجئ للاحتجاجات وكذلك الزخم الكبير الذي صاحبها، حيث كان من الصعب تمرير مقولة الفتنة في الوقت الذي تغصّ فيه الساحات والميادين بالملايين من المتظاهرين. لكن مع فتور الزخم الثوري ونجاح الدولة العميقة في امتصاص الصدمة الثورية الأولى أخذت مقولة الفتنة طريقها إلى إعلام الثورة المضادة وبدأ الترويج لها بقوة مع دخول الفاعل الديني على خط الثورات سواء من جهة نجاح الإخوان المسلمين في انتخابات مصر أو عبر نشأة التنظيمات الجهادية المسلحة في سوريا وليبيا واليمن.
نجحت هذه المقولات وغيرها في بناء الأرضية الفكرية والإعلامية التي ستخاطب الوعي الجمعي للجماهير العربية بشكل يشكك في مصدر الثورات وفي أهدافها وهو الأمر الذي يجعل من الالتفاف عليها ومحاربتها أمرا ممكنا. هكذا نجح النظام الرسمي العربي في إنقاذ نفسه من السقوط لكنه رغم ذلك مُنيَ بهزيمة فادحة تمثلت في زعزعة الأسس التي ارتكز عليها أكثر من نصف قرن. هذه الرجة أحدثت في بناء الاستبداد شرخا لا يقبل الترميم وهو الأمر الذي يجعل من الهزات القادمة هزّات قاتلة لن يستطيع معها تحقيق نفس النجاح الذي حققه خلال الجولة الأولى.