لنقبل جدلا أن الرواية الرسمية بخصوص قضية اعتقال ومحاكمة المواطنة المغربية هاجر الريسوني ومن معها، والتي تطوعت بعض المنابر الإلكترونية المعروفة بقربها من أجهزة السلطة، صحيحة لا تشوبها شائبة.
تقول الرواية المنقولة عبر المواقع إياها إن المواطنة هاجر الريسوني متهمة بانتحال صفة لتقديمها هوية زائفة لعيادة طب النساء وادعائها كونها مطلقة ولديها أبناء، تسهيلا لعملية إجهاض جنين، نتج عن علاقة جنسية غير شرعية، حضرت لأجلها إلى العيادة في يومين متتاليين لتحديد الموعد، ما ينفي أي حديث عن استعجالية الحالة واستدعائها تدخلا جراحيا سريعا.
ولأجل إثبات التهمة، تحتمي الرواية المقدمة بتسريبات من محاضر القضية، وبصورة شهادة طبية متعلقة بحالة "المتهمة" بعد اعتقالها من أمام العيادة وليس داخلها. يشير جزء من الشهادة، التي لا ترتقي لحجية الخبرة أو التقرير الطبي، كما "يزعم" الطرف الآخر، إلى أن هاجر اعترفت بإجرائها عملية الإجهاض وكأن الأمر محضر استنطاق وليس شهادة طبية متخصصة.
مفتاح القضية الأهم
في كل الحالات، تصبح السلطة، حسب روايتها، مشاركة أصيلة ومساهمة فعلية في عملية الإجهاض المزعوم، وهي بذلك تنسف أية محاولات من جانبها للظهور بمظهر المدافع عن الحق في الحياة وعن تطبيق القانون. السلطة كانت تعلم عن "تحضيرات" العملية، وقبلها عن "الممارسات الجنسية خارج إطار الزواج" وعن انتحال الصفة وغيرها من التهم المضمنة في ملف القضية. وكان حريا بها التدخل منعا للـ "جريمة" لا اعتقال "الجناة" بالشارع العام بديلا عن اعتقالهم متلبسين بالجرم المشهود. التشهير الأخلاقي والتصفيات الرمزية لم تكن يوما من شيم الفضلاء الساعين للدفاع عن الشرف ونشر الفضيلة ورفعة القيم والأخلاق. لأجل ذلك، يبدو لقب "الريسوني" مفتاح القضية الأهم.
تتحدث أرقام الجمعية المغربية لتنظيم الأسرة عن ثمانين ألف حالة إجهاض في السنة. بينما تفيد الجمعية المغربية لمحاربة الإجهاض السري أن الرقم يقترب من ربع مليون حالة
قبل سنتين كشف موقع "فاكت سلايدس" الأمريكي، عن احتلال المغرب مركز الصدارة عربياً في عمليات الإجهاض، على الرغم من أنها ممنوعة قانوناً، متبوعة بتونس التي شرّعت الموضوع منذ سبعينيات القرن الماضي، فيما احتل المرتبة الثامنة عالميا بعد دول من بينها الولايات المتحدة والصين والهند.
تتحدث أرقام الجمعية المغربية لتنظيم الأسرة عن ثمانين ألف حالة إجهاض في السنة. بينما تفيد الجمعية المغربية لمحاربة الإجهاض السري بأن الرقم يقترب من ربع مليون حالة بمعدل ستمائة إلى ثمانمائة حالة إجهاض يوميا. وكانت دراسة أخرى أصدرتها جمعية "إنصاف" في العام 2015 تحدثت عن ثلاثين ألف ولادة خارج إطار الزواج بشكل سنوي.
هذه الأرقام المخيفة تظهر مدى ازدهار سوق "الإجهاض" بالبلد حيث تحولت العيادات الطبية والشقق ومحلات الأعشاب إلى مراكز غير مرخصة لممارسة الإجهاض السري. لم تتحرك الأجهزة المعنية بالزجر والرقابة إلا في حالة هاجر الريسوني، الصحفية العاملة في صحيفة "أخبار اليوم" المسجون مالكها على إثر قضية اتجار بالبشر ذات طابع جنسي. وسليلة عائلة تضم عمّيها أحمد رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، وسليمان رئيس تحرير أخبار اليوم الذي رفع السقف عاليا في افتتاحياته الأخيرة وسمى كثيرا من الأشياء بمسمياتها.
شبهة الانتقام
قد تكون الرواية "الرسمية" صحيحة، فهاجر في البدء والانتهاء بشر. لكن السيناريوهات المقدمة تحيل على شبهة "انتقام" لم يجد سبيلا للتفعيل غير الفرع الأضعف والأسهل في الاستهداف. الشرف في العقلية الذكورية مرتبط بالمرأة أما الرجل فكل مغامراته وسام على صدره لا تزيده إلا رفعة ومجدا. ولعل في استعراض تجارب سابقة ما يمنح للأمر "صدقيته" في انتظار أطوار المحاكمة التي ستنطلق قريبا.
في العام 2011، وفي عز فوران الشارع المغربي فيما عرف بحراك 20 فبراير، ظهرت مواقع تخصصت في التشهير الأخلاقي بمن رأتهم محركين أو داعمين للحراك. كانت جماعة العدل والإحسان الطريدة الأسمن، فظهرت للوجود قصص مدعومة بصور وفيديوهات لأعضاء وقياديين لم تسلم منها نادية، ابنة الشيخ عبد السلام ياسين. التشهير كان دوما سلاحا يستخدمه المتصارعون ما استطاعوا إليه سبيلا.
"الحريات الفردية جزء لا يتجزأ، والدفاع عنها ينبغي أن يكون مبدئيا غير خاضع لأي أيديولوجيا أو انحياز سياسي أو فكري"
صادفت قضية الريسوني ومن معها أخبار استدعاء الشرطة لزميلات صحفيات بجريدة الأحداث المغربية، اللواتي استهدفن بحملة مسيئة قدمن بسببها شكاية ضد "ناشط" في حقوق الأقليات، لم يحفظ قلمه أو لسانه في التشهير بهن. كما صادفت أنباء اعتقال صاحب حساب "حمزة مون بيبي" الذي تخصص لشهور في النيل من سمعة أسماء معروفة، أغلبها فنية، لم تكن المقدمة السابقة بقناة "الام بي سي"، مريم سعيد، إلا واحدة منهن. وكان منتظرا أن يشمل هذا السعي الرسمي لحماية المواطنين من المس بالأعراض أو الابتزاز الجميع. لكن واقع الحال يظهر أن سياسة الكيل بمكيالين لا تزال لها الغلبة في التعامل مع الأشخاص والأحداث على حد سواء. وتلك تهمة تسري حتى على المنادين اليوم إلى التضامن مع الصحفية المعتقلة وهم الذين لم يحركوا ساكنا عندما ملأن أخبار وصور فنانة معروفة ضبطت مع مخرج أعمالها في شقة الأخير.
"الحريات الفردية جزء لا يتجزأ، والدفاع عنها ينبغي أن يكون مبدئيا غير خاضع لأي أيديولوجيا أو انحياز سياسي أو فكري". هكذا كتب محمد رفيقي الشهير بأبي حفص، أيام كان شيخا سلفيا، في إطار حملة التضامن مع هاجر. حملة لا قيمة فعلية لها بالنظر إلى انحسارها في تصريحات أظهرت سعيا لاستثمار القضية للترويج لقناعات تبدأ بالسعي للانتقام لحالات شخصية مرورا بالدعوة لتغيير القوانين والانتهاء بالدعوات لشرعنة الإجهاض والعلاقات الجنسية خارج إطار الزواج. هي نفس التجاوزات تعيد نفسها، ونفس الوجوه تظهر في كل القضايا، وهي نفس استراتيجيات الدفاع تتكرر كل محاكمة، والنتيجة إهدار للزمن وإجهاض لمشروع وطن معتز بذاته، مستوعب لواقعه ومشاكله ومنفتح على التجارب الإنسانية الرائدة.
عبد الاله بنكيران، الذي كان يملك ولو نظريا القدرة على تغيير القوانين، أعلن أنه سيحضر زفاف هاجر، وهنا انتهى الكلام..