نتابع
المناظرات السياسية بين المتقدمين لمنصب رئيس الجمهورية في
تونس ونردد في كورس جماعي: أيها العرب انظروا، نحن
نبني الديمقراطية ونتفوق عليكم. حتى أن التنظيم صار هدفا في ذاته، لا وسيلة للتقدم في الاختيار بين الأصلح للمنصب. ورأينا فريقين يتناظران ونكتب الورقة قبل مثول الفريق الثالث ولا نتوقع معجزة، فالخطاب تكرر حتى تحول إلى محفوظة مدرسية. هذا التكرار والنقل واللصق هو الذي نحاول البحث في أسبابه ونتتبع نتائجه على صورة الرئيس لدى الجمهو،ر والذي لا ينكر
اهتمامه بمتابعة المناظرة، حيث أقفرت الشوارع في ليلتي البث، وحولت المقاهي شاشاتها على القناة الأولى الوطنية، والتي كانت مزدراة أكثر من تلفزيون السودان زمن البشير.
سرب الرؤساء المتشابهين
لن أستعمل وصف "قطيع الرؤساء" توددا لهم، وسأراهم سرب غزلان، ولكن السرب متشابه إلى حد التطابق، كأن الفحل واحد بل هو كذلك. صيغ متشابهة من بورقيبة رجل القانون والنظام، لا رجل التفكير والخيال الديمقراطي الخلاق. وسيلتهم إلى الحكم وفي الحكم واحد: القانون والترتيب، وهدفهم واحد: إشباع جوع الناس بناء على فكرة وحيدة أن الشعب كروش كبيرة نهمة يجب إشباعها.
واعتبر الخوض في الصلاحيات القانونية للرئيس وقدرته على التأثير على السياسيات الاقتصادية فخا للعودة إلى النقاش القانوني والبقاء فيه؛ لانعدام خيال مختلف لصورة الرئيس ودوره. بل هو جوهر التفكير الواحد القائم على تدبر الغذاء، وهو تفكير يقلص فعلا من صلاحيات الرئيس، وإن كان يتظاهر بتوسيعها لمشاركة الحكومة (أداة تدبير الخبز للجمهور الجائع). وقد ظهر السرب خبيرا في رسم هذه الحدود، وكان كثير من النقاش بمثابة معركة ترسيم حدود بين رئيس الدولة ورئيس الحكومة. في مقابل ذلك، هل على الرئيس إعادة اكتشاف العجلة؟
مطلوب شخص يحلم لمنصب الرئيس
ما من دولة إلا وقد بنيت على حلم عظيم.. تختلف الأحلام في التفاصيل التنفيذية، ولكن يوجد خيط رابط بين مكونات العظمة والمجد.. الرئيس يبني حلما لشعبه دون أن يكون بالضرورة نبيا أو زعيما بالمعنى العربي للزعامة التي خبرناها في النصف الثاني من القرن العشرين، وكانت كارثة مدمرة لأمة وأقطار.
حلم الحريات المطلقة هو الذي بنى الولايات المتحدة الأمريكية، وحلم السيطرة على بحار العالم هو الذي بنى إنجلترا، وحلم الثورة الفرنسية هو من بنى فرنسا، وحلم الرد على الهزائم والعودة إلى قيادة العالم بالقوة والنظام والحرية هو الذي أعاد بناء ألمانيا من خراب الحروب. وكان الرؤساء والملوك والمستشارون أدوات توسيع الحلم ودفعه إلى مداه، ليحمل في تياره الشعب المتعلق بالحلم لا بالشخص.
مهمة الرئيس استباق شعبه إلى بناء صورة مغرية؛ بالانتماء للدولة بصفتها أداة تموقع في التاريخ، وليس أداة تدبير عيش يومي. فالعيش اليومي وإن غطاه المتكلمون بكلمات كبيرة عن العلاقات الدولية وعن تغيير الأحلاف وفتح الآفاق (وهو إنشاء جميل بلا برنامج تنفيذي)، إلا أنه عمل قام به الفلاح التونسي دون العودة إلى كراسات نظرية. لقد أكل التونسيون دوما من كد أيديهم، ولم تقفر الأسواق في أحلك فترات الاضطراب السياسي. لذلك فالتركيز على تدبير المعيش ليس رواية ولا خيال فيه.. الخيال في الهوية الجامعة، وهنا دور الرئيس.
ليس مهمة الرئيس الحديث عن غرس المزيد من الزيتون.. الفلاح التونسي يفعل ذلك باقتدار، ولا يهمه من هو الرئيس، ولكن عندما يتكلم الرئيس عن وضع الزيت التونسي أو التمر على موائد العالم فإن الفلاح يعرف أنه ينتمي إلى البلد الذي يطعم العالم، وحينها يكون غرس الزيتون هوية لا تدبير خبز. هكذا يُخرج الرئيس شعبه من خطاب التكفير والإقصاء، ويكسر المنظومة الفكرية التي أقامها حكام يفرقون بين الناس ليسودوهم لأنهم غير قادرين على الحلم، والنموذج الأمثل، طبعا في التجربة التونسية، هو الجنرال اللص الذي كسر كل خيال وكل حلم، وحول التونسيين إلى سوائم تأكل وتنام وتخاف فتخضع. ولم أر فيمن تكلم شخصا يملك رواية من هذا القبيل، وإن كنت سأظلم الدكتور المنصف المرزوقي الذي لم يفكر أبدا كخباز أو شرطي، وأطلق أفكارا كبيرة وجد البقية أنفسهم يرددونها بلغة أفضل منه.
يفتخر الألماني الآن بأن ثلث سكان العالم يقودون سيارة ألمانية، ولا يفتخر بأنه مسيحي أو لا ديني. وهذه هوية جامعة منطلقة من خيال يقدم القوة والسيطرة عبر الذكاء لا عبر الحرب. مهمة الرئيس هي خلق حلم مماثل، دون أن يغرق ترسيم الحدود مع رئيس الحكومة.
لكن علينا أن نتفاءل بموت الخباز والشرطي
مزية المناظرات حتى الآن هي كشف قصور الخيال لدى الجميع، وما
غرق المرشحين في التنفيذي إلا من عجز لا من قوة. والمزية الأكبر هي أن هذا التفكير يحتضر وسيحمل معه أصحابه إلى الفناء السياسي، في عملية متأنية لتفريغ الحوض من المياه القديمة وفتح معين جديد بماء جديد.
السنوات الخمس القادمة ستكون سنوات موت الرئيس الخباز والرئيس الشرطي.. لم يعد التونسيون محتاجين شرطيا في منصب الرئيس، رغم أن الجريمة متفشية بشكل كارثي.. يكفي جهاز أمن منظم ليفعل ذلك.. والتونسي ليس جائعا يتضور، فوقفة قصيرة في سوق الغلال تكشف مقدار العمل المبذول في إنتاج الغذاء.
غير أن كل هذا الإبداع يأتي ضمن ابستيمولوجيا قاصرة مبنية على فرضية قديمة الشعب جائع وخائف يجب تأمينه من الجوع والخوف؛ بدولة بوليسية وكثير من الدجاج.
تصعب قيادة شعب يحلم، لذلك منعنا الرؤساء من الحلم، والقادمون نتاج شعب مُنع من الحلم، فانكب على الخبز. ولن أكتب هنا لو كنت رئيسا لفعلت كيت وكيت، لكن العلامات حتى الآن مخيبة للآمال.. إنهم يعيدون إنتاج ضعفنا وهواننا على خريطة العالم.
لن يكون هناك فرق بين الرئيس القادم الذي ينيمنا باكرا بعد أن نشبع بالعجين الغذائي، وبين مدرب كرة القدم الذي يعتبر التعادل في الماتش انتصارا .لا فرق بينهما، فهما نتاج مدرسة ترى النجاح بالإسعاف نجاحا باهرا، رغم أن كل المعلمين حفظونا قصيد المتنبي "إذا غامرت في شرف مروم فلا تقنع بما دون النجوم".
ليس فيمن تحدث إلينا في المناظرات من يروم شرفا أكثر من يشبعنا ويغطينا لننام، ويبيت حارسا ينهب من غفلتنا لخزانته الخاصة ككل لص حقير.
ونختم متجاوزين حياد التحليل: أيها التونسي اشدد همتك إلى نجم، فسرب الرؤساء القادمين من خيباتك ليس أكثر من انعكاس نجم صغير على صفحة ماء راكد.