من يشكك في الديمقراطية التونسية جاهل أو مغرض، فكل
المؤشرات تدل على أن البلاد كسرت قيود الماضي، وتحررت من الاستبداد الذي كان يضع
الجميع في قطار واحد يتولى قيادته الشخص الأقوى، ومن يشذ عن سياسة القطيع ينال
عقابه عاجلا أو آجلا. وقد تحول القطار إلى قطارات، والصوت المهيمن إلى أصوات
متنوعة ومختلفة، وأضفى الحق في الاقتراع مصداقية قوية على صندوق الانتخاب.
عاد الحديث من جديد عن الثورة وقيمها وأهدافها، رغم
شعور التونسيين بالإرهاق والملل، وبلغ التشكيك في أصالة الثورة التونسية أقصاه في
مختلف المنابر والمناسبات. وتجسد ذلك في مناسبتين متتاليتين، هما الانتخابات
الرئاسية في جولتها الأولى، وأكدت الانتخابات البرلمانية ذلك بوضوح.
وجدت حركة النهضة نفسها مدعوة إلى مراجعة خطابها
السياسي في الساعة الأخيرة من يوم الاقتراع، وتمكنت من استعمال أقصى درجات التعبئة
لدعوة أنصارها والمتأثرين بمشروعها إلى التوجه بكثافة نحو صناديق الاقتراع
والتصويت لصالحها؛ قبل أن تتمكن من تسميهم بقوى الثورة المضادة من الغلبة والإمساك
بمؤسسات الدولة. وبحكم أن الحركة كانت تراقب سير الاقتراع وتقوم باستطلاع آراء
الناخبين بعد مغادرة مكاتب التصويت، لاحظ المشرفون على ذلك أن حظوظ الحزب المنافس
لحركة النهضة ممثلا في "قلب تونس" قد تصاعدت، مما أثار مخاوفها، ودفعها
إلى تجنيد طاقاتها من أجل إقناع أنصارها بالتحرك السريع.
شهد الخط السياسي لحركة النهضة انكسارا ملحوظا، خاصة
بعد فشلها في انتخابات 2014. لقد راهنت يومها على منهج التوافق مع حزب الأكثرية
ممثلا في نداء تونس، وشيئا فشيئا وجدت نفسها في حالة تطبيع جزئي ثم كلي مع
المنظومة الحاكمة والسائدة. وأصبح هدفها المحافظة على المواقع داخل السلطة؛ أكثر
من اهتمامها بسياسات الدولة وبالجمهور المستهدف من وراء تلك السياسيات، وهو ما أثر
على وضعها ومصداقيتها، وجعلها تخسر جزءا واسعا من قاعدتها الانتخابية تدريجيا.
كانت خطة الحركة قبل وفاة الرئيس الباجي قايد السبسي
تستند على دعم يوسف الشاهد حتى يصبح رئيسا، باعتباره العصفور النادر الذي يجري
البحث عنه منذ فترة، مقابل أن يتولى رئيس الحركة رئاسة البرلمان، وأن يتقاسم
الحزبان الحكومة القادمة لتحقيق الاستقرار وديمومة الدولة والاستمرار في تنفيذ
الإصلاحات الضرورية للاقتصاد التونسي. لم تكن هذه الخطة محل نقاش أو توافق بين
الحزبين، وإنما كانت قيادة الحركة تخشى احتمال إخراجها من السلطة من قبل معظم الأحزاب
التي ظنت أنها ستنتصر في الانتخابات التشريعية وقد تتجه نحو تشكيل حكومة بدون النهضة.
كان هناك جدل في داخل الحركة حول مسألة التحالف مع
الشاهد، وكان ذلك من بين عناصر الأزمة التي شهدتها النهضة مؤخرا عندما طرحت مسألة
أيهما أجدى: دعم شخصية سياسية من خارج النهضة يقع التوافق معها حول المرحلة
القادمة لتوزيع المسؤوليات والمكاسب والأدوار، أو أن الأفضل هو ترشيح أحد كوادر
الحركة لخوض الانتخابات الرئاسية، وبالتالي التخلص نهائيا من حاجز الخوف من
الأطراف الخارجية، وتجنب ردود فعلها ضد رغبة النهضة في الجمع بين رأسي السلطة
التنفيذية.
أحدث نجاح قيس سعيد رجة قوية في صفوف النهضة، وتذكرت
القيادة يومها أنها ضيعت مفردات الثورة وأولوياتها. وعلى هذا الأساس راجعت الحركة
خطابها على عجل، وعادت من جديد للحديث عن الفقراء ومحاربة البطالة، وجعلت من الحرب
على الفساد أحد محاور الصراع مع منافسها على المرتبة الأولى في الانتخابات
البرلمانية. وفي نفس السياق، انتبهت الحركة إلى كونها أضاعت خلال مغامرة السلطة
والتطبيع مع منظومة الحكم جزءا حيويا من شبابها الذي آمن بدورها وتحمل العبء
الأكبر من هياكلها وأنشطتها، وهو ما حاولت أن تتداركه في الانتخابات الأخيرة.
لم يتم التشكيك في مصداقية الانتخابات التونسية، رغم
الخلافات الدائرة حولها. صحيح أن هناك حديثا واسعا عن مخاطر المال الفاسد، كما تم
تسجيل العشرات من التجاوزات، لكن الهيئة العليا المستقلة للانتخابات أكدت أن هذه
الخروقات على أهميتها لم ترتق لمستوى التشكيك في النتائج أو القدح في مصداقية
العملية الانتخابية.
هناك علاقة جدلية قوية بين الثورة والديمقراطية؛
الأولى هي التي أدت إلى الثانية، والثانية هي التي تحمي الأولى وتحافظ على وهجها
ومصداقيتها. وما حدث في تونس خلال يوم الأحد الماضي، وقبل ذلك التاريخ بأسبوعين
عندما أطاح الناخبون برئيسي حكومة ووزير دفاع شاركوا جميعهم في السباق الرئاسي،
وأعطوا الأولوية لأستاذ جامعي ليس له تاريخ سياسي. وها هي الانتخابات البرلمانية
تعطي لحزب نداء تونس الذي جمع معظم كوادر النخبة مقعدا واحدا، بعد أن حصد من قبل
89 مقعدا، كما أطاحت الانتخابات بحزب رئيس الحكومة وجعلته لا يتجاوز 14 مقعدا..
إذا لم يكن كل ذلك ثمرة من ثمار الديمقراطية، فما هي الديمقراطية يا ترى؟!
في أنَّ مناظرات الرئاسة عربية الأصل وليست أمريكية!