الكتاب: عودة الشعبويات أوضاع العالم 2019
الكاتب: بمشاركة مجموعة مؤلفين بإشراف بتران بادي ودومينيك فيدال
ترجمة: نصير مروة
الطبعة الأولى 2019
الناشر: مؤسسة الفكر العربي للترجمة العربية سلسلة "حضارة واحدة" بيروت لبنان
عدد الصفحات:" 399 صفحة
تشهد المواكبة العلمية لتطور اتجاهات السياسة في العالم أزمة غير مسبوقة، ليس فقط بضعف قدرتها على توقع بروز بعض الظواهر السياسية ذات الخصائص السياسية والخطابية المشتركة في العالم، ولكن، أيضا بسبب عدم قدرتها أيضا على دراسة مثل هذه الظواهر في دينامياتها، فضلا عن القدرة على تفسيرها وإيجاد الروابط بين مثيلاتها في التاريخ السابق، وعلاقاتها المفترضة بين مكوناتها المتشابهة في الراهن الحالي.
والحقيقة أن ظاهرة الشعبوية في السياسة ليست ظاهرة جديدة، فقد عرف القرن التاسع عشر موجات لهذه الظاهرة بخصائص سياسية وخطابية مشتركة، تم التواطؤ على تسميتها بتسميات مختلفة، نازية أو فاشية أو غير ذلك، بل إن هذه الظاهرة لها امتداد أعمق في التاريخ، إذا تم النظر إليها بكونها ليست إيديولوجية مغلقة، بقدر ما هي ظواهر أفرزتها الأزمات، وتتمتع بمواصفات سياسية وخطابية مشتركة. بل إنه في الوقت الذي كان يعتقد فيه البحث العلمي لتطور السياسة، أن الديمقراطية هي منتهى التفكير السياسي الذي أفرزته التجربة الإنسانية، وأن ما بعد الحداثة، المتميز بطابعه النقدي والتفكيكي، ليس في جوهره سوى مرحلة أخرى من مرحلة الحداثة، أو بالأحرى مرحلة أخرى من مراحل ترشيد الحداثة وتصحيح أعطابها، فقد امتدت موجة الشعبوية في العالم الغربي خاصة، مهيمنة على أطراف كبيرة من أوروبا، وبريطانيا، والولايات المتحدة الأمريكية، سواء عبر صعود اليمين المتطرف أو أقصى اليسار أو من خلال جنوح التيار المحافظ سواء في بريطانيا أو أمريكا، معلنا بذلك عن دخول الفكر السياسي الغربي في أزمة غير مسبوقة، عجزت المواكبة العلمية والبحثية عن تأطيرها في نسق تفسيري.
في هذا السياق، يحاول كتاب "عودة الشعبوية" أن يبحث عن تأطير معرفي وتفسير علمي لهذه الظاهرة، في محددات نشأتها، وأسباب عودتها وموجاتها وتطورها في السياق التاريخي، وأيضا في ماهيتها وتعريفها، وهل هي إيديولوجية مغلقة تتمدد، أم مجرد ممارسات سياسية بخصائص خطابية واحدة، وماذا يعني عودتها بالنسبة لاتجاهات السياسة في العالم؟
تناسل موجات الشعبوية وعجز عن تعريفها
المثير في هذا الكتاب الذي جمع مساهمات عدد كبير من الباحثين والمؤرخين وعلماء السياسة، فضلا عن المختصين في رصد المكونات السياسية وتحليل اتجاهاتها في العالم، أن ثمة تواطؤا كبيرا على وسم العديد من التيارات السياسية التي صعدت إلى مربع الحكم عبر الانتخابات سواء في أوروبا أو بريطانيا، أو حتى أمريكا ودول العالم الثالث بالشعبوية، لكن لا أحد من هؤلاء بلغ به تفكيك الظاهرة إلى حد الحديث عن إيديولوجية واحدة أضحت تتمدد في العالم، فالرصد الذي قام به هؤلاء من خلال إسهاماتهم في هذا الكتاب، يشير إلى أن الشعبوية أضحت أهم توجه مؤطر للتيارات السياسية في العالم المعاصر، فقد تمكن هذا التيار من البروز في بريطانيا من خلال طرح مسألة خروج المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي، وشكل انتخاب ترامب إيذانا بتمكن هذا التيار من دوائر الحكم في البيت الأبيض، كما أشرت تحولات السياسة والاقتراعات الانتخابية التي جرت في أوروبا عن صعود نجم التيارات الشعبوية سواء في المجر أو التشيك أو النمسا أو في إيطاليا، إلى الحد الذي ذهب فيه أحد المشرفين عن هذا الكتاب، وهو المؤرخ والمتخصص الفرنسي في دراسة التيارات السياسية في العالم، دومينيك فيدال، إلى أن هذه التيارات الشعبوية، سواء منها اليمينية أو غيرها، قد تجاوزت في عدد الأصوات التي حصلت عليها في الانتخابات التي أجريت في خمس عشرة دولة من دول في أوربا حدود 10 في المائة، وحوالي 20 في المائة في ثماني دول أوروبية أخرى. وذكر دومينيك أن بعض الدول فاقت هذه النسبة، مثل سويسرا والمجر، التي تجاوزت فيها نسبة التصويت لهذا التيار 29 في المائة.
يحاول كتاب "عودة الشعبوية" أن يبحث عن تأطير معرفي وتفسير علمي لهذه الظاهرة، في محددات نشأتها، وأسباب عودتها وموجاتها وتطورها في السياق التاريخي
على أن الأمر لا يتوقف عند حدود الاتحاد الأوروبي، فقد تم عد بوتين في روسيا من أهم رموز التيار الشعبوي في العالم، ولم يستثن العالم العربي نفسه من هذه الظاهرة، إذ مثل دومينيك لها برئيس مصر عبد الفتاح السياسي.
الواقع أن انتشار خارطة الشعبوية في العالم، بما في ذلك دول العالم الثالث، طرح معضلة التعريف على مستوى علم السياسية، إذ بالرغم من تناسل الظاهرة، ووجود كم هائل من الخطابات التي تنتجها، إلا أن علم السياسة لم يفلح في نحت مفهوم لهذه الظاهرة، ينسحب على كل مكوناتها، سواء منها التي ظهرت في القرن التاسع عشر أو بعده، أو التي برزت في أوضاع العالم سنة 2019، وذلك بسبب اختلاف هذه الشعبويات، فالشعبوية التي برزت في الثلاثينيات أو الأربعينيات من القرن التاسع عشر، مثل شعبوية النارودنكس، ليست هي شعبوية النازية أو الفاشية التي ظهرت في القرن العشرين ما بين الحرب العالمية الأولى والثانية، كما أنها ليست نتاج إيديولوجية واحدة، حتى يمكن الإمساك بحدودها وتعريفها وبسط خصائصها الموحدة، فالشعبوية بقدر ما تنبثق عن اليمين، تخرج أيضا من اليسار، بل تخرج من اليمين المتطرف، وأيضا من يمين اليمين ويمين الوسط، وكذلك الأمر بالنسبة لشعبوية اليسار، بل إن الشعبوية كما أشار إلى ذلك بحث فرانسوا بورغا لم تسلم منه حتى الظاهرة الإسلاموية، مما يجعلنا في المحصلة أمام ظواهر متعددة بممارسات سياسية متشابهة وخصائص خطابية متقاربة، دون أن يعني ذلك أنها تشكل عقيدة مذهبية واحدة تتسم بطابع التماسك النظري.
الشعبوية تعبير عن أزمة وليست جوابا في السياسة
لا يمكن تعريف الظاهرة، ولا البحث في مكوناتها وتوجهاتها عن عقيدة جامعة، بمبادئ تصهر هذه الظاهرة، التي برزت في اتجاهات السياسة في العالم، وإنما يقدم الكتاب تفسيرات لمحددات بروزها، فهي ليست جوابا عن السياسة وعن الأعطاب التي أنتجتها، وإنما هي تعبير عن أزمات، أو للدقة هي احتجاج عن الأزمات الداخلية التي اندلعت في العديد من الأقطار.
يميل الكتاب إذن، إلى نفي الصفة الإيديولوجية للشعبوية كظاهرة، فليست الشعبوية مذهبية إيديولوجية للحكم، بقدر ما هي تعبير احتجاجي عن الأزمات التي أحدثها النظام السياسي الذي فقد وظيفته وعطل مقاصده المعيارية، وتعرض للانحراف وحاد عن الدور الذي كان يفترض أن يقوم به.
على أن هذا التعبير الاحتجاجي الذي تمثله الشعبوية، لا يشمل فقط نقد الدولة الحديثة، ومآل المؤسسات الديمقراطية وطريقة اشتغالها، فهذا ليس في جوهره سوى نوع واحد من الخطاب الشعبوي الذي يحاول تعبئة الجمهور، موظفا مفهوم الخيانة للشعب وحياد المؤسسات الديمقراطية عن القيام بوظائفها، بسبب سيطرة أرباب رأس المال على الديمقراطية وتحكمهم في كل مراكز الدولة، حيث تقدم الشعبوية نفسها بديلا للأوضاع القائمة، متهمة الآخرين من منافسيها بكونهم فاعلين لا مصداقية لهم، إذ تظهر الشعبوية كما لو كانت تملأ فراغ السياسة، وغياب
العرض السياسي. وثمة نوع آخر من الخطاب الشعبوي، يصفي مشكلته مع الدولة الحديثة من زاوية مختلفة، زاوية الضيق بالقيود التي فرضتها التكتلات السياسية والإدارية، أو الاتفاقات المكبلة، فتظهر الشعبوية في صورة المتمرد على هذه الاتفاقات، كما حصل في حالة شعبوية بريطانيا التي طرحت خيار الخروج من الاتحاد الأوروبي.
والأمر لا يتوقف عند حدود نقد الدولة الحديثة، سواء في جوهرها الديمقراطي، أو في بعدها القطري، بل يمتد إلى التعبير عن أزمات أخرى، ناتجة عن أعطاب النموذج التنموي في بعده الاجتماعي والاقتصادي، إذ تنسب الشعبوية سبب المشكلة للتفاوت الطبقي وتعمق الفجوة بين الفقراء والأغنياء، وتقدم نفسها كمخلص لهذه الوضعية المكرسة لواقع اللامساواة بين شرائح المجتمع.
ليست الشعبوية مذهبية إيديولوجية للحكم، بقدر ما هي تعبير احتجاجي عن الأزمات التي أحدثها النظام السياسي الذي فقد وظيفته
وثمة لون آخر من الشعبوية، تم تسليط الضوء عليه في الكتاب، وهو المرتبط بقضية الهوية، إذ تبنت التوجهات الشعبوية الطروحات اليمينية المحافظة، مركزة بذلك على قضية القيم وبشكل خاص قيم العائلة ومخاطر التفكك الأسري، وأنها جاءت لتنقذ الدولة من الخراب القيمي المهدد لها، فيما انطلقت توجهات أخرى من قضية تقييمها لواقع الهجرة، ومخاطر الإسلام على أوروبا، وأنتجت إيديولوجية هوياتية، موغلة في العنصرية.
الشعبوية والموجات الأربع
مع ميل الكتاب إلى الحديث عن شعبويات مختلفة بممارسات سياسية وتعبيرات خطابية متقاربة، إلا أنه يميل إلى دراسة تطور الشعبوية في سياقها التاريخي من زاوية الموجات، إذ يقترح بتران بادي الأستاذ الجامعي في معهد الدراسات السياسية بباريس، وأحد المشرفين عن إعداد الكتاب موجات أربع مفسرة لتطور الظاهرة.
الموجة الأولى، شكلها الروس النارودنيكي، من خلال شن انتقادات لاذعة للدولة القيصرية المنبثقة من من تحديث النظام الامبراطوري، إذ كانوا ينددون بعنف الرأسمالية الروسية الوليدة وبضعفها على المستوى العالمي وطاقتها على تدمير الفلاحين وإلحاق أذى بالصغار منهم، وقد اندرجت ضمن الموجة نفسها شعبوية مماثلة في الولايات المتحدة الأمريكية، حمل لواءها حزب الشعب في انتخابات سنة 1992 بواسطة زعيم الشعبويين وقتها "جيمس ويفر"، كما اندرجت ضمن الموجة ذاتها شعبوية الجنرال الفرنسي بولانجيه التي قامت على نقد الجمهورية الثالثة في فرنسا.
أما الموجة الثانية (بين ثلاثينيات وأربعينيات القرن العشرين)، فذهب بادي إلى أنها بدأت بين ثلاثينيات وأربعينيات القرن العشرين بعيد الحرب العالمية الأولى، من خلال النازية في ألمانيا والفاشية في إيطاليا، وأيضا من خلال الشعبوية التي برزت في أمريكا اللاتينية لاسيما الأرجنتين والبرازيل، لتعود الشعبوية من جديد في موجة ثالثة، (ما بين الاستعمار والاستقلال) في نفس البلدين، وأيضا في أفريقيا وآسيا، لكن هذه المرة استجابة لواقع الصراع بين الشرق والغرب.
أما الموجة الرابعة (بعد نهاية الحرب الباردة وانطلاق العولمة)، فقد مثل لها بادي بعودة الشعبوية إلى أوربا من جديد من خلال انتعاش التيارات اليمينة بعد انتهاء الحرب الباردة واندلاع العولمة، وذلك في ألمانيا وفلندا والدانمارك ثم في مختلف دول أوروبا لاحقا.