ذات مرة وصل إلى صلاة الجمعة متأخرا، وكان اعتاد الصلاة في الصفوف الأمامية، ففتح له الناس الطريق إلى أن وصل إلى الصف الأول فاستدار للمصلين بغضب، وقال لهم: "هكذا تصنعون طواغيتكم".
جاء من أرض الفاتحين عبر مسيرة نضالية شاقة ومنهكة خاضها ضد الفاشية ثم الشيوعية، والمرحلة الأكثر دموية ضد فظائع الصرب في بلاده.
مثقف واقعي حاذق، ومفكر وفيلسوف إسلامي متسامح، لم يترك الماضي يسيطر على عقله فقد أودع النسيان بعض مصائبه من حياتيه الباكرة ، بحسب قوله.
عاش حياته إنسانا بسيطا فقيرا، في بيت متوسط الحال، وداخل جدران مكتب أكثر بساطة.
ينحدر علي عزت بيغوفيتش، المولود عام 1925 في مدينة بوسانا كروبا البوسنية، من أسرة من مسلمي البوسنة الأرستقراطيين الذين فروا من بلغراد إلى البوسنة والهرسك عام 1868.
واسم عائلته يمتد إلى أيام الوجود التركى بالبوسنة فالمقطع "بيج" في اسم عائلته هو النطق المحلى للقب "بك" العثماني، ولقبه "عزت بيغوفيتش " يعني "ابن عزت بك".
والمعروف أن الإسلام دخل البلقان بعد معركة كوسوفا المشهورة في عام 1389، والتي انتصر فيها الفاتحون العثمانيون على الصرب.
كان والد عزت بيغوفيتش محاسبا، خدم في الجيش النمساوي المجري على الجبهة الإيطالية خلال الحرب العالمية الأولى، وتعرض لإصابات خطيرة تركته في حالة شبه مشلول مدة لا تقل عن عشر سنوات، وأعلن إفلاسه في عام 1927.
تأثر على عزت بيغوفيتش في مقتبل عمره بالطلاب البشناق الذين ذهبوا إلى مصر، والتحقوا بالأزهر، وتعرفوا على جماعة "الإخوان المسلمين" التي تأسست في مصر عام 1928 على يد حسن البنا.
انفتح بيغوفيتش على التجارب الإسلامية في باكستان وإندونيسيا وكتابات أبو الأعلى المودودي وحسن الندوي ومنهاج "الجماعة الإسلامية" في شبه القارة الهندية في العمل، واستطاعت "الشبان المسلمين" البوشناق جذب الشباب المسلم المثقف في جامعة سراييفو، حيث كان يدرس الحقوق، وشارك في النضال ضد الفاشية المنتشرة في أوروبا.
نال شهادة البكالوريوس في الحقوق عام 1950، والدكتوراه عام 1962. وحصل على شهادة في الحقوق عام 1962، وشهادة عليا في الاقتصاد عام 1964.
عمل مستشارا قانونيا لمدة 25 سنة، ثم تفرغ للبحث والكتابة والعمل السياسي.
وما أن وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها الثقيلة، وانهيار معسكر "المحور" وانتصار "الحلفاء"، حتى أعلن عن تأسيس الاتحاد اليوغسلافي عام 1945، الذي تكون من ست جمهوريات إضافة إلى إقليمين يتمتعان بالحكم الذاتي، ، وكما واجه بيغوفيتش الفاشية بدأ في مواجهة الشيوعية، وتعرض للسجن والاعتقال أكثر من مرة.
ولم يجد بيغوفيتش أمامه مفرا من استمرار العمل إلا من خلال المؤسسات الدينية الرسمية، فوثق علاقته مع رئيس "جمعية العلماء"، ومد جسور التواصل مع المثقفين المسلمين وعلماء الدين الرسميين، وبدأ ينشر سلسلة من المقالات باسم مستعار في مجلة "تاكفين" التي كانت تصدرها "جمعية علماء المسلمين".
وبعد وفاة رئيس يوغسلافيا جوزيف تيتو عام 1980 بدأت يوغسلافيا في التحرر من القيود الحديدية، فنشط بيغوفيتش وأنصاره، وقام ابنه أبوبكر، الذي سيصبح فيما بعد رئيسا للبلاد خلفا لوالده، بتجميع سلسلة مقالات نشرها وأصدرها في كتاب "البيان الإسلامي"، الذي أثار ضجة كبيرة واعتبر "إعلان لدولة إسلامية" في البلقان، فألقي القبض على بيغوفيتش وحكم عليه عام 1983 بالسجن 14 عاما، بعد أن انتشر الكتاب سرا بين المسلمين، وبدأ الشباب المسلم يناقشونه ويطرحون العديد من التساؤلات حول مستقبلهم وهوياتهم.
تبعه بعد قليل ظهور كتاب بيغوفيتش "الإسلام بين الشرق والغرب" الذي استغرق تأليفه سنوات، وهربت أصوله إلى الولايات المتحدة الأمريكية، لينشر للمرة الأولى عام 1984، والذي قدم فيه عصارة فكرة ونظرته للحضارة الأوربية، وما تعانيه من مشكلات والحلول لها.
مكث بيغوفيتش غير بعيد إذ ما لبث أن أطلق سراحه عام 1988.
وسيساهم عام 1990 في تأسيس حزب "العمل الديمقراطي" الذي أصبح من أكبر الأحزاب في البوسنة والهرسك، وفي استفتاء أجري عام 1991 أيد 99.4% من المصوتين استقلال البوسنة عن يوغسلافيا.
على أثرها اعلنت جمهورية البوسنة والهرسك الاشتراكية، وتسلم بيغوفيتش رئاستها ما بين عامي 1990 و1992. ثم منصب رئيس جمهورية البوسنة والهرسك في الفترة ما بين عامي 1992 و 1996.
وما أن أعلن بيغوفيتش الاستقلال حتى اندلعت حرب تطهير عرقي في جميع الجمهوريات التي كانت تقع ضمن يوغسلافيا. وارتكبت القوات الصربية المدعومة من يوغسلافيا وروسيا، فظائع بحق السكان الأصليين من المسلمين، ونتج عنها مقتل الآلاف، وعشرات المقابر الجماعية، واغتصاب آلاف البوسنيات المسلمات.
وجد بيغوفيتش نفسه وشعبه محاصرين، وتمارس عليهم حربا عرقية لم تعرف أوروبا لها مثيلا، ووقف الغرب ليشاهد نهاية البوسنة والوجود الإسلامي، ورغم شراسة الحرب دافع البشناق عن أرضهم وأعراضهم، ودفعوا الثمن غاليا وسقط منهم نحو 350 ألف قتيل، وخسروا ثلاثة أرباع أرضهم، وبعد أن بدأت كفة الحرب تميل لصالح المسلمين تدخل الأوربيون بقوة، ومن بعدهم الولايات المتحدة الأمريكية؛ لوقف الحرب وفرض اتفاق "دايتون" .
وبعد أن شن حلف الناتو غارات جوية ضد قوات صرب البوسنة، انسحب الصرب من العاصمة سراييفو في عام 1995.
وبموجب الاتفاقية وضعت ترتيبات انتقالية جديدة قضت بانتخاب مجلس رئاسي لمدة سنوات، يتناوب عليه زعماء من المسلمين والكروات والصرب.
وبمرارة شديدة ، عندما فرض على المسلمين اتفاق "دايتون" قال علي عزت بيغوفيتش: "هذا ليس أفضل ما نحصل عليه.. ولكن شيء أحسن من لا شيء"، و تجرع بيغوفيتش والشعب البوسني "الاتفاق" الذي فرضته أمريكا والدول الأوربية كما تجرعوا "السم" بعد أن خذلوا من الجميع ولم يجدوا من يقف بجانبهم.
وقال بيغوفيتش جملته الشهيرة: "إن اتفاقا غير منصف خير من استمرار الحرب".
ونصت الاتفاقية على الالتزام بوحدة أراضي البوسنة. وتقسيم البوسنة إلى قسمين: أحدهما ذو طابع فيدرالي للمسلمين والكروات، والثاني جمهورية للصرب.
على أن يحصل المسلمون والكروات على ثلثي مقاعد البرلمان، والثلث الثالث للصرب. وأن تكون الحكومة المركزية هي المسئولة عن السياسة الخارجية وقضايا المواطَنة والهجرة.
ويحكم البوسنة طبقا للاتفاق مجلس رئاسي بدلا من رئيس واحد، ويضم المجلس 3 رؤساء: أحدهم يمثل المسلمين، وآخر الكروات، ويجري انتخابهما من قبل سكان اتحاد البوسنة والهرسك، أي فيدرالية المسلمين والكروات، أما الثالث فهو صربي ينتخبه سكان جمهورية الصرب، مدة المجلس الرئاسي 4 سنوات ويتولى أعضاؤه الثلاثة الرئاسة بالمداورة لمدة 8 أشهر لكل منهم، فيترأس كل منهم البلاد مرتين.
ظل بيغوفيتش في صدارة المشهد السياسي حيث كان أول من شغل رئاسة هذا المجلس في الفترة ما بين عامي 1996 و1998. كما قاد المجلس مرة أخرى في عام 2000.
وما لبثت التجربة أن اتعبت قلب بيغوفيتش فتوفي عام 2003 في مستشفى بسراييفو بعد معاناته مع مرض القلب، وتوفي نتيجة إصابته بحالة إغماء أدت إلي سقوطه أرضا.
ودفن بناء على وصيته بقبر بسيط بين قبور الشهداء في مقبرة كوفاتشي، بعد أن رفض خطة كانت تعدها الحكومة لبناء ضريح فخم وكبير له.
ترك بيغوفيتش وراءه العديد من الكتب ذات الطابع الفكري والسياسي منطلقا من رؤيته وفهمه لعالمية رسالة الإسلام وتعاليمه، ودعا في أطروحاته ونظرياته إلى التسامح والتعايش بين مختلف الأديان والأعراق.
ومن أبرز مصنفاته: "البيان الإسلامي"، و"عوائق النهضة الإسلامية"، و"الإسلام بين الشرق والغرب". وتوج عمله في التأليف نهاية 1999 بنشر مذكراته "هروبي إلى الحرية" التي سجل فيها ملاحظاته داخل السجن ما بين عامي 1983و 1988.
في عام 1994 منحت المملكة العربية السعودية بيغوفيتش جائزة الملك فيصل العالمية لخدمة الإسلام، كما حصل على جائزة مولانا جلال الدين الرومي الدولية لخدمة الإسلام من تركيا، وجائزة الدفاع عن الديمقراطية الدولية من المركز الأميركي للدفاع عن الديمقراطيات والحريات.
وفي عام 2001 اختير "الشخصية الإسلامية" لجائزة دبي الدولية للقرآن الكريم باعتباره من المفكرين الذين أسهموا في دعم الفكر الإسلامي، كما منحته دولة قطر قلادة الاستقلال.
وفي عام 2007 افتتحت حكومة إقليم سراييفو متحفا يحمل اسم بيغوفيتش، في الذكرى الرابعة لوفاته ضم مقتنياته المرتبطة بنضاله الطويل ضد النظام الشمولي وبحرب البوسنة.
كان يرى أن كل مفكر إسلامي هو عالم دين، كما أن كل حركة إسلامية صحيحة هي حركة سياسية.
كان يشعر بالمرارة لحالة التمزق العربي، وكان يقول أنه من غير المقبول نهائيا وغير الواقعي في هذا العصر، عصر التجمعات والتكتلات أن نجد شعبا واحدا هو الشعب العربي مقسما إلى دول منفصلة.
كان يؤمن إن تقدم الإسلام، مثل أي تقدم آخر، سيتحقق على أيدي الشجعان الثائرين، لا على أيدي الوديعين المطيعين. وبأن المسلم بين خيارين لا ثالث لهما: إما أن يغيّر العالم، وإما أن يستسلم للتغيير.
رحل بقلب نقي خال تماما من بالكراهية ومليء بالمرارة، عانى في السجن من نقص في المكـان، وفائض في الزمـان ، بحسب تذكره لتلك السنوات العجاف.
عاش كمحام بسيط، يناضل من أجل دينه وعقيدته، فيكتب المقالات، ويلقي المحاضرات، ويتحرك بين أبناء البوشناق ليوقظ فيهم روح الإيمان، ويعلي الهمم، ويربطهم بعقيدتهم، متصديا لأي اتجاه فكري او سياسي كان يهدف إلى أبعاد شعبه عن هويتهم الإسلامية.
أتقن عدة لغات أجنبية، بينها الألمانية والفرنسية والإنجليزية والعربية. وكان يعتبر العربية وسيلته للاتصال بالقرآن الكريم والاطلاع على التيارات الإسلامية وتجاربها الفكرية.
حياته ومماته تختصرهما عبارة " في الأديان يوقّر الإمعات الأشخاص والسلطات والأوثان ، أما عشاق الحرية فإنهم لا يمجّدون إلا اللّه" ، رحل الرجل ولم يوقر في قلبه عقله سوى خالقه مدفوعا بحب شعبة وبلاده.