مع سحب الرئيس الأمريكي دونالد ترامب عدد من القوات الأمريكية من نقطتي تل أبيض ورأس العين شمالي سوريا، بدأت دول أوروبية التحرك سريعا على جبهتين؛ الأولى محاولة إقناع ترامب بالتراجع عن قراره، والجبهة الثانية محاولة منع الرئيس التركي شن عملية عسكرية في شرق الفرات.
كشف الواقع على الأرض القدرات المحدودة للدول الأوروبية، فلا استطاعت إقناع الرئيس الأمريكي بعدم سحب القوات من شمالي سوريا، ولا استطاعت إقناع الرئيس التركي بعدم شن عملية عسكرية.
القارة القديمة
مع بدء العملية العسكرية التركية (نبع السلام) في التاسع من تشرين الأول/ أكتوبر الجاري، بدأت الأصوات الأوروبية المنددة بالعملية تتصاعد.
ووصل التنديد الأوروبي إلى حد الصراخ (فرنسا، ألمانيا، هولندا) والتهديد باتخاذ إجراءات ضد تركيا، وقد عبرت عن ذلك صراحة وزيرة الدولة الفرنسية للشؤون الأوروبية إميلي دو مونشالون مع انطلاق العملية العسكرية التركية، حين قالت إن "فرنسا وبعض الدول الأوروبية لن تقف مكتوفة الأيدي في مواجهة موقف صادم بالنسبة للمدنيين ولقوات سوريا الديمقراطية ولاستقرار المنطقة".
لكن أقصى ما قامت به هذه الدول هو حظر بعض الدول بيع السلاح إلى تركيا، وهي خطوة لا أهمية لها عمليا؛ لأن حجم حجم مبيعات الأسلحة الأوروبية إلى تركيا هو 450 مليون يورو، من تجارة بينية تزيد على 150 مليار يورو.
أقصى ما قامت به هذه الدول هو حظر بعض الدول بيع السلاح إلى تركيا، وهي خطوة لا أهمية لها عمليا
حتى عندما ذهبت دول أوروبية (فرنسا، ألمانيا، بريطانيا، بولندا، بلجيكا) إلى مجلس الأمن لتقديم مشروع بيان غير ملزم، اصطدمت برفض أمريكي- روسي مشترك، على الرغم من أن مشروع البيان الأوروبي لا يدين العملية العسكرية التركية بل يعرب عن القلق منها ويدعو إلى وقفها.
وفي 16 الشهر الجاري وافق مجلس الأمن على البيان الأوروبي بعد تهذيب نصه، فأزيلت من البيان أية إشارة إلى تركيا والعملية العسكرية، والاكتفاء بالقلق من مخاطر تدهور الوضع الإنساني في شمال شرق سوريا وهروب مقاتلي تنظيم الدولة الأسرى.
وبلغ العجز الأوروبي داخل البيت الأوروبي نفسه، فقد فشل وزراء الخارجية الأوروبيين في اجتماعهم في لوكسمبورغ في الاتفاق على فرض حظر على مبيعات الأسلحة إلى أنقرة، أو فرض عقوبات اقتصادية عليها.
وهكذا، فالأوروبيون ليسوا متفقين على نهج موحد يسيرون به إزاء تركيا في الملف الدفاعي والاقتصادي والسياسي.
أسباب القلق
ثمة أسباب موضوعية واضحة للموقف الأوروبي المعادي للعملية العسكرية التركية:
على المستوى الاستراتيجي، لا تحبذ الدول الأوروبية الفاعلة أن يزداد الحضور التركي في الساحة السورية، وهي تفضل أن يبقى الأمر مقتصرا على الولايات المتحدة وروسيا، فمن شأن توسيع الحضور التركي في سوريا أن يمنحها قدرة أكبر على فرض أجنداتها.
على المستوى السياسي، تدعم بعض الدول الأوروبية مشروع الإدارة الذاتية للأكراد، وهي تعتبر الفيدرالية أو حكما لا مركزيا من نوع ما؛ ضروريا للأكراد وللدولة السورية على السواء، والعملية العسكرية التركية قد ضربت هذا المشروع بشكل نهائي.
على المستوى الإنساني، تخشى الدول الأوروبية أن تؤدي العملية العسكرية إلى موجات لجوء واسعة نحو تركيا، وبالتالي نحو أوروبا.
لا يبدو أن الدول الأوروبية ستعمل على تغيير موقفها، بل على العكس ستصعد موقفها، حيث يتجه البرلمان الأوروبي إلى فرض عقوبات اقتصادية على تركيا
ما بعد نبع السلام
أما وأن العملية العسكرية التركية (نبع السلام) قد انتهت، أو حققت أهدافها الكبرى، فلا يبدو أن الدول الأوروبية ستعمل على تغيير موقفها، بل على العكس ستصعد موقفها، حيث يتجه البرلمان الأوروبي إلى فرض عقوبات اقتصادية على تركيا، منها:
- تجميد المعاملة التفضيلية للصادرات الزراعية التركية لدول الاتحاد الأوروبي.
- تعليق الاتحاد الجمركي للاتحاد الأوروبي مع أنقرة، وهو إجراء من شأنه أن يؤثر بالسلب على حجم التبادل التجاري السنوي بين الجانبين.
- فرض عقوبات على مسؤولين أتراك نسبت إليهم انتهاكات لحقوق الإنسان في إطار الهجوم التركي على شمال سوريا.
وليست هذه العقوبات من أجل دفع الأتراك للانسحاب من شرق الفرات، فالواقع العسكري في شمال سوريا تجاوز ذلك مع إقرار روسي بالوجود العسكري التركي، وإنما هدف العقوبات ربما يكون تعويض عن العجز الأوروبي، والاستياء من شخص الرئيس التركي الذي فرض حضوره في الساحتين الإقليمية والدولية.
وتتبوأ فرنسا ذات الخطاب والسلوك العصابي في السياسة الخارجية رأس الحربة في هذه العقوبات، بينما نرى أصواتا عقلانية ظهرت من ألمانيا تطالب بتحويل
المنطقة الآمنة، من منطقة تركية إلى منطقة آمنة دولية.
تتبوأ فرنسا ذات الخطاب والسلوك العصابي في السياسة الخارجية رأس الحربة في هذه العقوبات، بينما نرى أصواتا عقلانية ظهرت من ألمانيا
ومع أن المجلس الأوروربي قد رفض المقترح الذي تقدمت به وزيرة الدفاع الألمانية كرامب كارنباور، إلا أن هذا الرفض ليس نهائيا، بل هو إجرائي مرتبط بتهيئة المناخ الدولي لهذه المنطقة، ولذلك طالب البرلمان الأوروبي مجلس الأمن الدولي بإصدار قرار بإنشاء منطقة أمنية في شمال سوريا بموجب تفويض من الأمم المتحدة.
ويكشف هذا المطلب كيف يمكن للدول الأوروبية الاستفادة من المنطقة العسكرية الآمنة التي أنشأتها تركيا بقوة السلاح، من خلال جعلها منطقة لاستقبال كثير من اللاجئين السوريين، وهذه هي النقطة التي دفعت الوزيرة الألمانية إلى دعم المنطقة الآمنة وانتقادها الطابع السلبي الذي اتسم به تصرف ألمانيا والأوروبيين في هذه القضية حتى الآن كالمتفرجين من وراء سياج.