رغم ضبابية العبارة وإمكانية التلاعب السياسي بمضمونها، فإن "المافيوزية" هي أقرب العبارات الدالة على المنظومة السلطوية الموروثة من عهد المخلوع، تلك المنظومة التي استطاعت بعد الثورة التونسية أن تعيد إنتاج نفسها بصيغ مخاتلة، رغم الزخم الثوري كله.
وقد ساعدها على ذلك جملة من المعطيات السياقية التي حالت دون القطع الجذري مع الخزان البشري للفساد وتشريعاته ورعاته الإقليميين والدوليين. وقد كان لمقولة "استمرارية الدولة" (بالتوازي مع ادعاءات الخوف من "أخونة الدولة") دور مركزي في شرعنة بعض الخيارات التأسيسية الكبرى، كإسقاط قانون العزل السياسي الموجّه ضد المنتمين لحزب المخلوع المنحل بحكم قضائي، بالإضافة إلى ما أعقب ذلك من انقسامات هوياتية وصراعات أيديولوجية صبّ خراجها في مصلحة المنظومة القديمة.
وقد استطاعت تلك المنظومة أن تستعيد السلطات الثلاث (رئاسة الجمهورية والحكومة ومجلس النواب)، لتمضيَ قدما في "التطبيع" مع ممارسات الفساد في أغلب مفاصل الدولة، وفي التغطية على رموز الفساد المالي والإداري بتمرير قانون المصالحة.
كان لمقولة "استمرارية الدولة" دور مركزي في شرعنة بعض الخيارات التأسيسية الكبرى، كإسقاط قانون العزل السياسي الموجّه ضد المنتمين لحزب المخلوع المنحل بحكم قضائي
وبصرف النظر عن التبريرات التي قدمتها حركة النهضة لسياسة التوافق مع المنظومة القديمة، وبصرف النظر عن مسؤولية بعض مكونات المعارضة في اتخاذ ذلك القرار بتضخم عدائيتها للإسلاميين وإدارة الصراع معهم بمفردات "الصراع الوجودي".. بصرف النظر عن ذلك كله، فإن سياسة التوافق القائمة على أساس "توازن الضعف" والبعيدة عن أي تأصيل نظري أو مشروع وطني جامع؛ قد ساهمت في تعطيل المجهودات المبذولة لمقاومة الفساد، بل ساهمت أحيانا في ترسيخ واقع عجز الدولة أو تواطئها مع اللوبيات المالية والشبكات الزبونية المتنفذة. فرأينا العديد من المسؤولين يتعاملون مع خيرات الدولة المادية والرمزية بمنطق غنائمي قد أمِن صاحبه العقوبة، ورأينا المال المشبوه يتحول إلى أجندات سياسية عبر بوّابة الإعلام، ورأينا الكثير من رموز الرأسمالية الوطنية يتحولون إلى قيادات حزبية فاعلة، حتى وصل الأمر
بنبيل القروي (مالك قناة نسمة التلفزية والمشبوه في قضايا تحيل ضريبي وتبييض أموال) إلى تكوين حزب سياسي والتقدم للانتخابات الرئاسية التي بلغ دورها الثاني.
وها هي البلاد الآن تواجه مشتبها فيه آخر في قضايا فساد (هو صاحب قناة الحوار التونسي)، ولكن الكثير من رموز "الفساد الإعلامي" يصرون على طرح القضية باعتبارها قضية حرية تعبير، أو قضية "أيديولوجية" يتواجه فيها "إعلامي حر"
مع حركة النهضة وأذرعها القضائية.
بعد وصول الأستاذ قيس سعيد إلى سدة الرئاسة، عاد إلى التونسيين الأمل في محاربة حقيقية للفساد؛ محاربة تتجاوز "شقشقة" الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد و"محدودية" نتائج هيئة الحقيقة والكرامة، من جهة أولى، وتتجاوز (من جهة ثانية) التعامل الانتقائي للحكومة مع هذا الملف وادعاءات المتابعة التي لم تعد محل ثقة من عموم التونسيين.
بعد وصول الأستاذ قيس سعيد إلى سدة الرئاسة، عاد إلى التونسيين الأمل في محاربة حقيقية للفساد؛ محاربة تتجاوز "شقشقة" الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد و"محدودية" نتائج هيئة الحقيقة والكرامة
ولم يعد القرب الجغرافي والتاريخي من إيطاليا يغري بالهجرة القانونية أو السرية فقط، بقدر ما صار هذا القرب مغريا بمقايسة الوضع التونسي الحالي بوضع إيطاليا؛ قبل حملة "الأيادي النظيفة" بقيادة جملة من القضاة والمحققين، وبمساهمة فعالة من الأجهزة الأمنية.
ورغم عدم إجماع التونسيين على نظافة
مؤسستهم القضائية وتواصل بعض الشكوك حول خضوعها لمنطق الإملاءات السياسية، فإنهم يثقون في قدرة هذه المؤسسة على إدارة ملف الفساد بصورة مختلفة
بعد وصول الرئيس قيس سعيد لقصر قرطاج. فالرئيس قد أعلن منذ خطاب أداء قسم التنصيب أنه لن يسمح بالفساد ولا بإهدار المال. كما أن الرئيس المتمتع بشرعية شعبية كاسحة سيكون أكبر ظهير للقضاة في أداء مهامّهم، وذلك بما سيوفره لهم من غطاء سياسي ودعم شعبي يحتاجه القضاة في مواجهة "حيتان" الفساد المالي والإداري والنقابي، ويحتاجونه أيضا في رفض أي تدخل سياسي (داخلي وخارجي) في عملهم.
وقد يكون من التفاؤل المبالغ فيه أن نحصر مسؤولية مقاومة الفساد في الجهاز القضائي. فحملة الأيادي النظيفة لم تنجح في إيطاليا إلا لوجود جهاز أمن وطني نفذ قرارات الاعتقال دون تردد، وكذلك وجود مجتمع مدني قوي وإعلام حرّ ساند الحملة، ولم يكن "حائط مبكى" أو حديقة خلفية لشبكات الفساد الأخطبوطي. وقد يكون من التفاؤل المبالغ فيه أيضا أن نعتبر عزل وزيري الدفاع والخارجية وبعض كبار المسؤولين (أو حتى طلب
التدقيق المالي في مصاريف الرئاسة ووزارة الخارجية) انتصارا على منظومة الفساد.
فهذه القرارات الجريئة هي في أفضل وجوهها تعبير عن إرادة حقيقية في مقاومة الفساد "السياسي"، ولكنها تظل بعيدة عن "النواة الصلبة للفساد: العائلات المتحكمة في الاقتصاد التونسي وفي السلطة ذاتها، عبر وكلائها السياسيين والنقابيين والإعلاميين وغيرهم. وهي عائلات يعلم المختصون في الشأن التونسي أن أغلب التشريعات والسياسات الحكومية الكبرى قد انبنت على أساس حماية مصالحها وسيطرتها المطلقة على مصادر الثورة، مما يجعل من الضروري تعديل التشريعات لتتلاءم مع مبادئ الشفافية والتنافسية وحيادية الإدارة، وكل القيم التي تقطع مع "رأسمالية المحاسيب" (Capitalisme de connivence) أو ما يُعرف بالإنكليزية بـ"Crony capitalism".
هذه القرارات الجريئة هي في أفضل وجوهها تعبير عن إرادة حقيقية في مقاومة الفساد "السياسي"، ولكنها تظل بعيدة عن "النواة الصلبة للفساد: العائلات المتحكمة في الاقتصاد التونسي وفي السلطة ذاتها عبر وكلائها السياسيين والنقابيين والإعلاميين وغيرهم
إن الفساد السياسي أو الاقتصادي ليسا في جوهرهما إلا تعبيرة "مشتقة" من فساد قيمي أصلي؛ كان هو القاعدة التي انبنت عليها السياسات الحكومية منذ الاستقلال الصوري عن فرنسا. وهو فساد استطاع أن يفرض نفسه عبر جملة من الاستعارات باعتباره أيديولوجيا "الدولة الوطنية" ومشروعها التحديثي؛ الذي هو في جوهره مشروع جهوي- زبوني لحراسة التبعية والتخلف وإعادة إنتاج شروطهما.
ونحن عندما نتحدث عن فساد قيمي فإننا لا نربطه بالضرورة بالمعطى الديني، بل نربطه أساسا بغياب منظومة أخلاقية "عقلانية" تستطيع إدارة مشروع التحديث ضمن أفق تحرري حقيقي.
ولعلّ القيمة الأهم للرئيس قيس سعيد هي في أنه استطاع
تجسيد تلك المنظومة الغائبة. فالتونسيون لا يرون في رئيسهم النقيضَ الموضوعي والفكري لمشروع التحديث، بل يرون فيه النقيضَ الموضوعي والفكري لكل الممارسات والادعاءات التي شوّهت ذلك المشروع، وجعلت منه مجرد مشروع للاستلحاق الثقافي والاقتصادي بفرنسا. وهو ما يعطي للرئيس قيس سعيد رمزية وطنية جامعة تجعله قادرا على إدارة مشروع مقاومة الفساد، أو على الأقل أن يكون هو ضمانته الأساسية في إطار صلاحياته الدستورية، ومنها تقديم مشاريع القوانين وعرضها على الاستفتاء الشعبي العام، الأمر الذي سيمثل ضغطا حقيقيا على النواب والحكومة في حال تراخيهم في مقاومة الفساد أو تواطئهم الخفي معه.