لا يمكن النظر في مداولات تشكيل الحكومة
التونسية بمعزل عن اللحظة
النفسية الجديدة التي كشفت عنها
الانتخابات، فتشكيلها يتم في سياق نفسي جديد، وتحديد
آفاقها وحسابات تشكيلها يمر حتما عبر ذلك.
سأجادل هنا رأيا يسود
في بعض الأوساط، وهو أن الانتخابات كانت تعبيرا عن "عودة قوى الثورة"،
وكأنها استعادة للحظة تشكيل "الترويكا". وإذ أرى نفسي في "صف
الثورة" وكنت في خضم تجربة "الترويكا"، فإن الأمر والوضع أعقد
بكثير من هذا الرأي الذي يدفعنا باتجاه التفكير القائم على الرغبة (wishful thinking) وليس التحليل الجدي.
لنستعرض بعض المعطيات
والقرائن لدحض هذا الرأي:
- لنتفق أولا على أن
هناك موجة عامة ظهرت أكثر في الانتخابات الرئاسية في صالح حماية القيم العامة
وتجنب الفساد، أو ما يشتبه فيه كذلك، لكن هذا لا يعني حصرا استعادة "لحظة
الثورة".
- من جاؤوا في المقدمة
ومحسوبون على الثورة، باستثناء "قلب تونس"، لا يرون أنفسهم في ذات معنى
"الثورة". مثلا، حزبا التيار الديمقراطي وحركة الشعب لا يعتبران حركة
النهضة في صف الثورة، ويريان استعمالها مفردات ومعاني الثورة مناسباتية ومناورة
سياسية لا غير، باعتبار تموقعها إلى جانب النداء وتمريرها قوانين لا تتناسب مع
"خط الثورة"، وليس أقلها أهمية "قانون المصالحة".
- الحزب الأول بحوالي
20 في المئة من الأصوات، وهو ما يعادل تقريبا نصف ما تحصل عليه الحزب الأول في
2011 و2014. تفويض الأول ضعيف، ويعكس حجم الخيبة العامة.
- الرئاسية: رغم تناقض
رؤاهما، فإن شخصيتي قيس سعيد ونبيل القروي اللذين تفوقا بلا شك على المرشحين
المتحزبين أو المدعومين حزبيا، تتميز بنقطة مشتركة: إنهما خارج منظومة
"سياسيي الدولة"، أو المنخرطين مباشرة أو عبر منظومة
الأحزاب في مؤسسات
الدولة، حكما أو ومعارضة. كانت الانتخابات استفتاء ضد هذه المنظومة.
- التشريعية: سأقدم
قراءة مختلفة بعض الشيء للأرقام، من زاوية من هم في الحكم ومن هم خارجه. فمجموع أصوات
أحزاب الائتلاف الحاكم (نهضة وتحيا ومشروع تونس) 717 ألف صوت من مجموع 2.85 مليون ناخب،
أي حوالي 25 في المئة أو ربع الناخبين. أي أن ثلاثة أرباع صوتوا ضد منظومة الحكم.
هؤلاء توزعوا بين أحزاب ليست جديدة لكن صاعدة (التيار والشعب مثلا بينهما 314 ألف
صوت، أي 11 في المئة من الناخبين)، أو أحزاب/ ائتلافات تصل لأول مرة للبرلمان برزت
في السنوات الأخيرة أو الأشهر الأخيرة (قلب تونس والدستوري الحر وائتلاف الكرامة
وحزب المرايحي 830 الف أي حوالي 30 في المئة).
وهنا، حتى إن ضم
"قلب تونس" وجوها قديمة في بعض الدوائر (قفصة وسوسة على سبيل الذكر لا
الحصر)، فإن صورة "الجديد" (السياسي)، أي نبيل القروي، هي الطاغية، وهي
التي جذبت حتى ناخبين لم يصوتوا سابقا. أعتقد أن التحليل الأفضل يجب أن ينصب نحو حداثة
وقِدم وعلاقة كل طرف بالإطار السائد والمعروف والتقليدي، وليس "الخط
الثوري". وأهم معطى يشكك في مرجعية "الخط الثوري" كإطار للتحليل؛
هو أن عددا مهما من ناخبي "نداء تونس" وقائد السبسي في 2014 مثلا، صوتوا
لقيس سعيد في الدورين الأول والثاني. أعتقد أن سيكولوجيا الناخبين المعقدة والأقرب
للمزاجية المتقلبة لا تتطابق مع إسقاطات التحليل السياسي حول صراع مستقر وثابت بين
ثورة ومضاد للثورة، أو يسار ويمين أو محافظ وحداثي.
بين الاتجاه العام في
الرئاسية والتشريعية، في النهاية الرسالة الأبرز هي في مواجهة من كان في منظومة
الدولة بتفاوت بما يعكس هوة الثقة، وانتظارات وتوقعات الناس، خاصة الاقتصادية
والاجتماعية، أيضا مكافحة الفساد عالية جدا.
نمر الآن إلى عامل أساسي
سيحدد إطار تشكيل الحكومة أي إكراهات الزمن والميزانية.
متى يبدأ العد التنازلي
للأشهر الأربعة من التكليف الأول؟ "في أجل أسبوع من أعلان النتائج النهائية
للانتخابات"، وبناء على تاريخ انتهاء الطعون، يكون إذا بين 15 و20 تشرين
الثاني/ نوفمبر. أي ينتهي أجل تشكيل الحكومة من قبل الحزب صاحب أكبر عدد من
المقاعد يوم 20 كانون الثاني/ يناير. هل يمكن وفقا لهذه الأجندة لحزب النهضة،
الموجود أصلا في الحكومة المنتهية ولايتها في زمن اجتماعي ساخن، تحمّل عبء الإبطاء
في تشكيل حكومة؟
أي قارئ للميزانية التي
تركها يوسف الشاهد سيفهم أننا إزاء قنبلة موقوتة تم تصميمها لعنصر حملته
الانتخابية.. مصاريف تفوق المداخيل بشكل كبير، وكتلة أجور مرتفعة، مقابل مفاوضات
قريبة مع اتحاد الشغل.. ميزانية تكميلية أمر حتمي، ولا يمكن أن يتجاوز الأمر بضعة أشهر
لتعديل الأوتار.
إكراهات الزمن
والميزانية لا تسمح بالإبطاء في تشكيل الحكومة وإضاعة الوقت.
في المحصلة، وفي ما يخص
توزيع القوى والسيناريوهات الممكنة:
- إذا أصرت النهضة على
حكومة يترأسها نهضوي، فلن تمر في البرلمان إلا إذا تراجع التيار والشعب عن
تصريحاتهما العلنية المؤكدة على رفض ذلك، وهذا يبدو مستحيلا وفقا لعدد من المعطيات،
أو تم تفعيل قلب تونس لتعهده بأنه لم يعد في عداء مع أي طرف، وسيصوت على البرامج
ضمنيا ليس على أساس من يترأس الحكومة.
الخيار الأول لا يبدو
ممكنا، والثاني يبدو سياسيا صعبا بعد الحملات المتبادلة بين الطرفين. ويحتاج الأمر
إلى مرحلة هدنة لتخفيض الاحتقان، أيضا ضمانات لوضع نبيل القروي، أي وصفة مقعدة.
لكن عموما، خيار النهضة
لرئيس حكومة نهضوي يعني إما خيارا واعيا بفشله، وبالتالي أسبابه خارج حسابات تشكيل
الحكومة ذاتها والأرجح يتعلق بتجاذبات داخلية، أو يستشعر موافقة مبدئية من قبل قلب
تونس لمنحها الثقة دون حقيبة.
لهذا، الأرجح أننا سنمر
إلى حكومة رئيسها مستقل. ولهذا على الحزب المكلف القيام بذلك ربح الوقت والاستثمار
في شعبية الرئيس لتجميع مختلف القوى، والتفاهم على شخصية قوية ونظيفة يساهم في
اختيار فريقه، وتكون شخصية منسجمة مع برنامج بأجندة تنفيذية مرقمة، يضمن موافقة
المنظمات المهنية، ويحتاج على الأقل سنتين أو ثلاث. وقوام هذا البرنامج مكافحة
الفساد وإعادة ترتيب أولويات المالية العمومية، بما يسمح بإعطاء أولوية للجانب
الاجتماعي ولورشات كبرى اقتصادية، وبكلفة إدارية وبيروقراطية محدودة.
لا نحتاج استنساخا لا
لـ"حكومة الترويكا" ولا لـ"التوافق"، وإلا فإنه سيتم القضاء
على ما تبقى من منسوب الثقة في العملية الديمقراطية ذاتها.