تُودّع البشرية يوم غد الثلاثاء السنة الجارية (2019)، وتستقبلُ عاماً جديداً (
2020)، ونفوس الملايين من الناس تتطلع لأن يكون الآتي أفضل من المنتهي، وأن يستعيد العالم رُشدَه وسكينته، وأن يُدبّر البشرُ اختلافاتهم بما يُحقق الخير العام، والعدل، والصفح والتسامح، وبما يجعل سكان المعمور متساكنين ومتعايشين، على الرغم من تباين أوضاعهم، ولغاتهم، وأديانهم، وألوانهم.
بيد أن المسافة بين الرغبة والمأمول والحاصل فعلاً في الواقع ما انفكت تتسع، وتزداد خطورة وتعقيدا، بل إن تحقيق المأمول في حدّه الأدنى لا يبدو واضحاً ويقينيا في الزمن المنظور، وأن الراجح فيما هو قادم سيسير على خط المماثلة، أي اتساع دوائر العنف، والحروب، والمآسي الإنسانية، وضمور قيمة العدالة، وتراجع منسوب الحريات الفردية والجماعية.
أما الأسباب فواضحة ومعروفة، وتعود في عمقها إلى هيمنة منطق التغوّل والغّلبة، واستشراء روح الجشع واللهث وراء المنافع والمكاسب، وفقدان السكينة في الدين، وتضخم الأنانيات الفردية والدولية، وضعف مكانة الإيمان في القلوب والنفوس، والتراجع المضطرد لقيم العدل، والتسامح والسلام.
قد يقول قائل: ليس هناك في العام الذي على عتبة الانتهاء أيّ اختلاف عما سبقه من الأعوام، ولن يكون لنظيره القادم (2020) ما يجعله متميزاً عنه. فكل عام يجبُّ ما سبقه دون أن يختلف عنه، من حيث تعميم السكينة، والاطمئنان، والفرحة في نفوس ملايين الناس ممّن يتوقون إليها، ويتطلعون إلى نعمة تذوقها في حياتهم.. ليفتح أي منا شاشات تلفازه، أو يستمع لمحطات إذاعاته، أو ليُبحر فيما تقدم الشبكة العنكبوتية من مواقع، وبرامج، ليرى ويسمع ما يجعل روحَه منقبضة ًحُيال ما يعُجُّ في العالم من أحداث ومآس، وما تتعرض له البشرية من اضطهاد وتنكيل، وما أصاب ويُصيب الطبيعة والبيئة من حولنا من تبديد وتدمير منتظمين.
فلو قُمنا بإطلالة على عالمنا العربي، المنطقة الأكثر تعبيرا ًعن فقدان السكينة والسلام في العالم، لأقنعتنا الوقائعُ على الأرض بحقيقة الصورة الكئيبة عن تقاسيم السنة التي نحن بصدد توديعها، والآفاق التي تنتظر العام الجديد القادم إلينا بعد يومين.
فالمهجرون من ديارهم بغير حق يُعدون بالملايين، والذين بقوا مرغمين في أوطانهم يُكابدون ضيق العيش، وعُسر الإمكان، ومخاوف المجهول. بل إن أغلبهم أصبح طُعما لفتك الأمراض والأوبئة، وعنواناً للنسيان والتناسي.. بل غدا العديد منهم مجرد أرقام في سجلات مراكز الإيواء، وأرشيفات المنظمات الإنسانية ذات العلاقة.
ففي سوريا الجريحة، يُخيم الموت بالجملة، وتجتاح البلد موجة من العنف قلّ نظيرها، وتتعاظم أرقام القتلى والمهجرين والمفقودين والمعطوبين. فقد أصبحت جل الحواضر الكبرى والأرياف الجميلة مجرد ركام من الخراب، ودُكّت المنازل وأسقطت عن آخرها، وتحول كثير من السوريين الأشاوس إلى "متسولين"، بعدما كانوا يُبدعون في كل المجالات، من اللغة العربية الجميلة، وحتى أرقى الأمور دقةً وابتكاراً.
والأمر نفسه حصل في اليمن، وما زال حاصلا، ولا يبدو واضحا متى يستعيد اليمن سعادته، ويُرفع الحزن عن أبنائه.
لا تخلو بقية الأوطان العربية، وإن بدرجات متفاوتة، من وجود درجات من التوتر، وقلة السكينة، وتزايد المخاطر، وارتفاع منسوب التوجس من
المستقبل، والتخوف مما تُضمره أوضاعه، وتُخفيه نائبات أيامه.
فبعد أن اعتقد الليبيون بأنهم أغلقوا قوس حقبة أكثر من أربعة عقود من نمط الحكم الواحد، وانسداد فضاء الحريات، ها هم يعودون إلى حروب القبائل والمليشيات، وتهافت إلى كل دول العالم على ثرواتهم، واقتتال الإخوة الأعداء. بل إن قطاعات واسعة منهم بدأ القنوط يدبُّ في نفوسهم، فشرعوا في الحنين إلى حقبة من اعتقدوا أنه اقتطع زمناً مهما ويسيرا من حياتهم قهراً وظلماً، ولعل الحنين نفسه عاد منذ سنوات إلى أجزاء مهمة من أبناء العراق.
وفي بعض البلاد العربية، لم تفلح الإصلاحات العامة التي طالت مؤسساتها في إقناع أبنائها بأنهم دشنوا عهدا جديدا يُرجع لهم كرامتهم، ويمدهم بوسائل تقرير مصيرهم، والتعبير بحرية عن إراداتهم. وقليلة هي الدول التي ما زالت تُغالب صعوبات بناء الديمقراطية، وترسيخ ثقافة المشاركة، وتوطين قيم الحرية والعدالة الاجتماعية.
أما ما بقي من الدول العربية، فإما لم تهب رياح التغيير بما يكفي من القوة في أوطانها، أو أنها هبت متأخرة (2018)، ولم يصل موسم قطاف الثمار بعد. وربما بقيت دول محدودة خارج كل هذه التوصيفات، وإن كانت، هي الأخرى، في قلب المشترك العربي وغير بعيدة عن روحه، كما هو حال منطقة الخليج العربي برمتها.
تؤكد مؤشرات كثيرة، واستنتاجات العديد من الدراسات التوقعية والاستشرافية، على أن المنطقة العربية مرشحة أكثر من غيرها من بلاد المعمورة للاستمرار مجالا جيواستراتيجيا موسوماً بالقلق والتوتر، وتعاظم حركات المطالبة بالتغيير. كما تُثبت الكثير من التحليلات أن الكتلة الحرجة (critique) من السكان (التي لا تتعدى أعمار أصحابها الثلاثين سنة، وهي بما يعادل 70 في المئة من هرم السكان) ستقود ديناميات المطالبة بالتغيير، لأسباب موضوعية وذاتية.
فمن الزاوية الموضوعية، لم تعد المشروعية بشقيها التقليدي والديني مُقنعة لهذه الشريحة الكبيرة من السكان، بل أصبحت تطالب، في المقابل، بالمشروعية الديمقراطية، أي تلك النابعة من إرادات الناس واختياراتهم الحرة. كما لم يعد هؤلاء قادرين على قبول الظلم الاجتماعي، وكل أشكال التمييز مستبدة بهم وبمصيرهم الجماعي.
أما من الناحية الذاتية، فهذه شريحة وازنة ديمغرافيا، وقد ولدت وترعرعت في زمن مختلف تمام الاختلاف عن زمن الآباء والأجداد، وهو ما يعني أنهم رافضون بالسليقة ثقافة أسلافهم ومن سبقوهم في الحياة، ومتطلعون بإصرار لانبثاق ثقافة سياسية جديدة أكثر تعبيرا عنهم وعن ذواتهم.