ذكرنا في المقالات السابقة أدلة من قالوا بأن الرجم حدّ، وقمنا بمناقشة هذه الأدلة بتفصيل، وبقي الرأي الآخر، وهو: أن الرجم ليس حدّاً، سواء كانوا محصنين أم غير محصنين، وأن عقوبة الزناة هي الجلد مئة فقط، سواء كان الزاني محصناً أم غير محصن، عملاً بآية سورة النور، التي يرى أصحاب هذا القول: أنها آخر تشريع تم في العقوبة، وقد نفى الرجم قديماً وحديثاً عدد من الفقهاء والعلماء، وبقي أن نعرض لهذا الرأي ولأدلته، ولأشخاصه الذين قالوا به.
وقد انقسم موقف الفقهاء المعاصرين من الرجم ـ عدا من يقولون بأنه حدٌّ ـ إلى ثلاثة أقسام: فقسم يتوقف فيه، ولكنه أميل إلى الرفض، يلوح ذلك من ثنايا كلامه، لكنه لا يصرح به. وفريق ثانٍ يراه تعزيراً لا حدّاً. وفريق ثالث يراه منسوخاً، فلا هو حد ولا تعزير، بل هو تشريع انتهى تماماً، ولا يقبل عودته من باب التشريع الإسلامي.
وغالب أدلة النفاة واحدة، إلا أنها تختلف قليلاً لمن يقول بنسخ الرجم، فيأتي بأدلة إضافية تثبت نسخه، أو انتهاء تشريعه، أو أن التشريع وقف عند مرحلة معينة، هي نزول سورة النور.
وأميل إلى القول بأنه لا رجم للزناة مطلقاً، على أساس أن التشريع وقف عند مرحلة سورة النور، وانتهى إليها، وهو الجلد فقط لجميع الزناة، محصنين وغير محصنين، ولي على ذلك أدلة أذكرها بالتفصيل إن شاء الله.
1 ـ المتوقفون في الرجم مع الميل لرفضه:
هناك فئة توقفت في الرجم، لكنها لم تخفِ شكوكاً حوله، وألمحت إلى الرفض بطرف خفي، وإن كان أقرب إلى نفيه؛ ومن هؤلاء:
1 ـ محمد الخضري:
من هؤلاء العلامة الشيخ محمد الخضري، وذلك في كتابه: (تاريخ التشريع الإسلامي)؛ إذ يقول: (فرض الله حد الزاني في القرآن مائة جلدة بدون تفصيل، فقال تعالى في سورة النور: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}، وجعل الأمة الزانية على النصف من ذلك، فقال الله تعالى في سورة النساء: {فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ}.
وقد وردت السنة برجم الزاني المحصن، وقد ورد في صحيح مسلم أن أبا إسحاق الشيباني سأل عبد الله بن أبي أوفى: هل رجم رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم، قال: بعدما أنزلت سورة النور أم قبلها؟ قال لا أدري)(1) .
والذي دلنا على كلام الشيخ الخضري ورأيه: ما كتبه الشيخ محمد أبو زهرة؛ فقد سأله أحد قراء مجلة (لواء الإسلام) عن ثبوت الرجم بأحاديث آحاد، فهل يمكن لأحد أن يقول: إن الرسول صلى الله عليه وسلم فعلها لظروف خاصة؟ فأجاب الشيخ أبو زهرة، وفي نهاية إجابته وردت هذه الفقرة: (لعل المستفتي قد اطلع على ما كتبه الأستاذ المرحوم الشيخ محمد الخضري في كتابه: (تاريخ التشريع الإسلامي)؛ فإن الأستاذ كتب كلمة يفهم منها أنه يشك في رجم الزاني المحصن وإن كان لم يقل ذلك صريحاً)(2) .
2 ـ إسماعيل سالم عبد العال:
ومن هؤلاء كذلك: الدكتور إسماعيل سالم عبد العال، في كتابه: (نفاة الرجم وفقه آية التنصيف)؛ فبعد أن جاء بأقوال المفسرين والفقهاء في آية سورة النساء، حول عقوبة الإماء إذا زنين بعد الإحصان، ختم بحثه بهذه العبارات:
(لكن قد يسأل سائل هنا: كيف يأمر الله بعقوبة لا تنتصف، ثم يلجأ إلى العقوبة التي يمكن تنصيفها وهي الجلد، فيسقط الرجم كله عند الجمهور؟ ويبقى الجلد، خلافاً لأبي ثور الذي جبر النصف إلى الكل فأوجب الرجم؟! ثم إن الرجم يسقط أيضاً عند من يجمع بين العقوبتين للزاني المحصن كما روي عن علي بن أبي طالب وكما هو رأي الظاهرية.
فعند الجمهور يأتي البدل الذي يتنصف ويطرح الرجم، وعند الذين يجمعون بين العقوبتين يطرح الرجم (أشد العقوبتين) ويبقى الجلد!!
ألا ترى أن هذا يضع علامة استفهام أمام عقوبة الرجم؟
أميل إلى القول بأنه لا رجم للزناة مطلقاً، على أساس أن التشريع وقف عند مرحلة سورة النور، وانتهى إليها، وهو الجلد فقط لجميع الزناة، محصنين وغير محصنين، ولي على ذلك أدلة أذكرها بالتفصيل
1 ـ انظر: تاريخ التشريع الإسلامي للشيخ محمد الخضري، ص: 83.
2 ـ انظر: مجلة لواء الإسلام، السنة الثامنة، العدد السادس، الصادر في صفر سنة 1374هـ - تشرين الأول/أكتوبر سنة 1954م، ص: 386. نقلاً عن: (فتاوى الشيخ محمد أبو زهرة)، جمع وتحقيق د. محمد عثمان شبير، ص: 671.
3 ـ انظر: نفاة الرجم وفقه آية التنصيف للدكتور إسماعيل سالم عبد العال، ص: 38 ـ 40.
Essamt74@hotmail.com
الإسلام والرجم (26): اضطراب الفقهاء في الإحصان وشروطه
الإسلام والرجم (24): حجية فعل وقول الراشدين في الرجم
الإسلام والرجم (24): هل رجم علي بن أبي طالب؟