في إسطنبول كان المؤتمر الذي دعا إليه مكتب الإرشاد لجماعة
الإخوان المسلمين، وحضره لفيف من الرموز والشخصيات
الفكرية والقيادية في الجماعة، كما غاب أو غُيّب عنه لفيف آخر من رموز الجماعة الفكرية والقيادية.
ويأتي انعقاد هذا المؤتمر من حيث الزمن بعد مرور مئة عام على تأسيس الجماعة تقريباً، وانتشارها الواسع في مختلف أقطار العالم، وبعد أن أصبحت اسماً ذا وزن كبير على الساحة الدولية والإقليمية والمحلية، وجزءاً من معادلة يصعب تجاهلها أو حتى تجاوزها.
ومن حيث الظرف، بعد ربيع الشعوب الذي أوصلها إلى سدة الحكم، وانقلاب العسكر الذي زج بالآلاف في السجون والمعتقلات، وشتت عشرات الآلاف في بقاع الأرض، وبعد أن قتل ونكل بالآلاف أيضاً، وبعد قتل الرئيس الشرعي المنتخب في محبسه، ومن قبله قتل المرشد العام السابق مهدي عاكف، رحمهما الله، في محبسه أيضاً.
ومن حيث الوضع العام الذي تمر فيه مصر، في ظل حكم العسكر، أو لنقل في ظل حكم السيسي الذي أوصل مصر باقتصادها وسياساتها ومكانتها وجغرافيتها ومياهها وإنسانها وجيشها إلى حيث لم تصل من قبل، سوءاً ومأساوية، فثمة انهيار في العملة، وتضخم في الميديونية، واتساع في رقعة الفقر، وتغول للفساد، وسيطرة للخوف والهلع، حتى وصل الأمر بمن عاونوه في انقلابه أن يتركوه ويعلنوا سخطهم عليه، فمنهم الفارون وكثير منهم في السجون والمعتقلات.
ومن حيث الوضع العام الذي تمر فيه الأمة العربية، فهو وضع غير مسبوق في السوء والمأساوية، فهذا منذ سنوات وهو يقتل شعبه ويشردهم ويهجرهم، وذاك يعتقل العلماء والدعاة والأحرار والوطنيين ويسجنهم، وذاك يشكل تحالفاً من مجموعة من الأشقاء ليعلن حرباً شعواء على شقيقه الآخر وجاره، وهؤلاء يشكلون حلفاً لا محل فيه للفضول، يعلنون فيه مقاطعة ذاك ومحاصرته، إنها قصة أمة تحكي واقعاً دامياً مخجلاً.
ومن حيث الوضع العام للأمة الأسلامية، فليس الأمر أقل سوءاً، فحال الأنظمة العربية والإسلامية المنهار، الراكع بل الساجد بين يدي ترامب بذلّ وخشوع أغرى بنا، وفتح شهية خصوم المسلمين وأعدائهم للتداعي عليهم، في كشمير المسلمة، وفي ميانمار، وفي تركستان الشرقية المحتلة، وغيرها.
ومن حيث الوضع الداخلي على صعيد الجماعة، فيأتي بعد كثير من الصراعات والنزاعات الداخلية التي حدثت داخل البيت الإخواني في مصر وبعض الأقطار الأخرى، والتي أدت إلى انقاسامات وانشقاقات داخلية، نتج عنها فرقة في الصف، وتباعد في الجهود، وتناحر على الشرعية، واتهامات قاسية بين أبناء الصف الواحد، وتشتت في العمل، وضعف في المواقف، وغياب في التوجه والرؤية.
في ظل هذا الوضع القاتم، وعلى جميع الأصعدة، جاء انعقاد المؤتمر، والذي أراه وبصراحة شديدة، وأرجو أن لا تُغضب صراحتي أحداً، مؤتمراً روتينياً كأنه يعقد في ظروف عادية جداً، أو ربما في ظروف أقل من عادية. فقد أخذ من هذا كله معطى واحداً فقط، وهو المعطى الداخلي، مقترناً بمعطى الهجوم الاتهامي للجماعة، والذي لم يتوقف يوماً من الأيام، لكن نبرته تعلو مرة، وتخفت مرة أخرى.
فرغم أن المؤتمر يعقد وقد غادرت الجماعة ألفية ومئوية، ودخلت ألفية جديدة ومئوية جديدة، إلا أن المؤتمر يصر على إبقائك في أجواء الألفية التي غادرتها الجماعة، والمئوية الأولى التي انصرمت من عمرها بعد التأسيس.
فجاء المؤتمر للتأكيد على وجود الجماعة وشرعيتها، وأنها الوارث الوحيد والممثل الشرعي لفكر الأستاذ الشهيد
حسن البنا، رحمه الله، ويلاحظ المتابع لهذا المؤتمر بأوراقه خاصة في اليوم الأول منه، أن الجماعة تؤكد على وجود الجماعة، بذات النسخة التي ظهرت فيها أول مرة، على يد مؤسسها ومؤطر فكرها، وباني هياكلها التنظيمية الأستاذ البنا، رحمه الله، ناسية أو متناسية أنها غادرت مربع التأسيس منذ مئة عام، وأنها اليوم بلغت من العمر مئة عام، وأنها تحط رحالها على أبواب العشرية الثالثة من الألفية الثالثة، التي شهدت وما زالت تشهد كل يوم يمر فيها تطورات سريعة في كل المجالات والميادين، السياسية والاجتماعية والعلمية والحياتية والتكنولوجية والعسكرية، وغيرها كثير.
قد تكون رسالة إثبات الوجود مهمة، لكن ما فائدة هذا الإثبات إن لم يواكب الحياة، ويستخدم أدواتها ويتفاعل مع مستجداتها، وينهل من معينها، ويسابق خطواتها. قد يكون الأهم من المؤتمر العلني، أن يأخذ القوم خلوة مع النفس لالتقاط الأنفاس، وإعادة ترتيب البيت الداخلي، وتفصيل ما يناسب ويواكب مستجدات العصر، فعندها ستكون رسالة إثبات الوجود أعظم وأكبر..