السيد الرئيس،،
تحية عطرة، وبعد،
فلا أجدني مضطراً لأن أجعل لحديثي معكم مقدمة طللية، أمهد فيها سبل الوصول
إليكم، ويكفيني من النصيحة أن أضعها بين أيديكم، مجردة من كل ما يمكن أن يشوبها من
مجاملات تذهب بهاءها، وتملق يفسد محتواها.
ما يعنيني هنا أن أقول ما أراه وأعيشه في دياركم العامرة بإذن الله، دياركم
التي دعونا الله تعالى وما زلنا ندعوه أن يحفظها وأهلها من كل سوء.. ولا أقول ما
سأقوله من أجل غاية دنيوية أسعى لها، أو حاجة مادية أطلبها، بل الغاية عندي هي
المصلحة العامة، التي تصب في صالح البلاد والعباد على حد سواء.
السيد الرئيس،،
لقد كانت الانتخابات الأخيرة، التي خاضتها البلاد، وأفرزت فوزكم بالرئاسة
وحزبكم في البرلمان، كانت أيدينا -طيلة فترتها الممتدة- في العالم العربي
والإسلامي على قلوبنا، وألسنتنا تلهج بالدعاء في صلواتنا أن يمدكم الله بالنصر،
وأن يعز جانبكم، وأن يجنّب
تركيا كل الشرور ما ظهر منها وما بطن، وقد كان فوزكم
سيدي الرئيس محفزاً للفرح والابتهاج والاحتفال في كل البلدان العربية والإسلامية،
التي تابعت مجريات الانتخابات بدقائق تفصيلاتها، وما هذا إلا لأنهم رأوا فيكم الزعيم
الذي ينحاز لأمته الكبيرة، التي لا تعرف الحدود، ولا تحجبها السدود، وهذا سيدي الرئيس
يعني حملاً كبيراً يلقى على عاتقكم في إضافة مسؤوليات عظمى على مستوى الأمة كلها،
تضاف إلى مسؤولياتكم الكبيرة أيضاً تجاه بلادكم وشعبكم.
السيد الرئيس،،
أن لا يأمن اللاجئون في دياركم، وأن يكونوا مادة رخيصة في برامج وألسنة
مشيعي الفتن، وملفقي الأكاذيب، ومروجي الإشاعات، ومستهدفي أمن شعبكم، واستقرار
حكمكم، وهم قلة منبوذة سخرت لها إمكانيات، مسألة تحتاج منكم ومن حكومتكم إلى وقفة
جادة وقوية وحاسمة، في قطع ألسنة الفتنة، ومحاربة مظاهر
العنصرية البغيضة، التي
تأتي على أخضر الأوطان ويابسه فتحرقه، وتفسده.
فليس من شيم الكرام أن يضام طالبو اللجوء والأمان في ديارهم، لقد ساءنا
كثيراً وساء كثيراً من محبيكم وداعميكم في طول بلاد المسلمين وعرضها، الأخبار
المتناقلة مؤخراً عن أوضاع
اللاجئين، طالبي الأمن في جواركم ودياركم.
وفي القوم كفاءات وقامات إنسانية عالمية، وتخصصات وخبرات علمية كبيرة، ويعدون
إضافات متميزة للمجتمع والدولة على حد سواء، لو أُحسن استثمارهم، وتأمين سبل العيش
الكريم لهم، وتسهيل أمور إقاماتهم في هذه الدولة، لكان نفعهم يعم البلاد والعباد.
ففي الوقت الذي تفتح فيه أمريكا أحضانها لاستقبال عشرات الآلاف منذ سنوات،
عبر ما يسمى القرعة، لتجنيس كل عام خمسين ألف مهاجر إليها، وكذا أوروبا التي تجنس
المقيمين الذين مر على إقامتهم مدة معينة في بلادها، يتخذ خصومكم ومنافسوكم في
الحكم المهاجرين واللاجئين ذريعة للهجوم عليكم، وإلا ما الذنب الذي اقترفته اللغة
العربية حتى تكون هدفاً لسهامهم المسمومة؟ إن هذه السهام تستهدفكم، وتسعى للتشويش
عليكم، وإفشال خطواتكم السياسية والاقتصادية والسياحية، فإن الضرر الذي سيلحق
بالاقتصاد والسياحة كبير جداً، بسبب هذه الممارسات التي حتماً ستمس سمعتكم التي
بنيتموها خلال عشرين عاماً.
السيد الرئيس،،
إن هذه الممارسات العنصرية المستنكرة، ممارسات متعمدة، ولا يُستبعد أن تكون
ممولة من جهات تستهدف استقرار البلاد، وأمنها واقتصادها، وبالتالي استمراريتكم في
الحكم، فلا يكفي لمواجهتها إلقاء الخطابات المستنكرة، بل الأمر بحاجة لقرارات،
واتخاذ تدابير قانونية، فأنتم تملكون أغلبية في البرلمان، وتملكون اتخاذ الإجراءات
القانونية التي تحد هذه الممارسات، بل وتجرّمها، فكيف يُترك الأمر، أمر استقرار
البلاد تحت ممارسات رئيس بلدية مهمتها الأولى خدمية، أن يسيء لاقتصاد البلاد
وسياحتها، من خلال محاربة اللغة العربية وإزالتها من الشوارع، وأنتم في جولة في
غاية الأهمية على دول عربية، بهدف الانفتاح عليها ومد جسور التعاون معها، وجذب
مواطنيها سياحاً ومستثمرين؟!!
السيد الرئيس،،
من نعم الله عليكم أن اختاركم في هذا الزمن الصعب، الذي عمّ فيه البلاء،
واستبد الفساد، واستمرئ الظلم، كي تكونوا وبلادكم الملجأ الآمن للمظلومين
والمضطهدين والمطاردين، فلتكونوا عند حسن ظن الله بكم، ولتكونوا أهلاً لهذا
الاختيار الرباني، الذي جعلكم باباً يطرقه عباد الله، ممن ضاقت بهم الأرض، فلا يُظلمنّ
في دياركم أحد.
السيد الرئيس،،
من خلال مسيرتكم المسددة في الحكم، يلاحظ حرصكم الشديد على مرضاة الخلق، وهو
أمر جميل، لكن يا سيدي أعتذر لكم إن قلت: أنكم أخطأتم السبيل في طلب رضى الناس،
فرغم أن رضاهم غاية لا تدرك، إلا أن السبيل الوحيد الذي يوصلك إلى هذه الغاية هو
مرضاة الله سبحانه وتعالى، فمن طلب رضى الله وإن أغضب الناس، فإن الله ضامن أن
يرضى عنه ويُرضي عنه الناس، أما من طلب رضاهم بغضب الله، فالله ضامن أن يغضب عليه،
ويغضب الناس عليه أيضاً.
فليس لكم للوصول إلى قلوب شعبكم إلا أن ترضي الله سبحانه وتعالى، في
قراراتكم وأحكامكم ومواقفكم وتحركاتكم الداخلية والخارجية، لتكن قبلتكم الحقيقية،
بعد هذه الأعوام الطويلة، التي أمدكم الله فيها بالصحة والعافية، وحفظكم من مكر
خصومكم، ومؤامرات أعدائكم، ومهد لكم فيها سبل الحكم، ومكن لكم فيها أسبابه، وآتاكم
من الرشد والحكمة نصيباً جميلاً.
فواجب الشكر على هذه النعم العظيمة التي ترفلون بثيابها، وتتفيؤون ظلالها،
يتوجب عليكم أن تجعلوا الله قبلتكم، ورضاه غايتكم، وأحكامه مطلبكم.
فما كنتم، كأتراك، أمة تحكم قارات العالم، وتملؤون الدنيا رهبة ورغبة، إلا
حين كان الله قبلتكم وغايتكم ومطلبكم.
وإن لكم في تاريخكم القريب، الذي يحاول خصومكم طمسه، ومسحه تماماً، لدرساً
عظيماً، يمهد لمن يعيه جيداً، سبل السيادة والاستقلال والعظمة.
بالأمس، كانت تركيا ولم تكن أمريكا، وكانت تركيا وكانت أوروبا كلها تقف على
عتباتها باحترام وإجلال، خوفاً ورهبةً، تطلب النجدة مرة، والمساعدة أخرى، والصداقة
والتعاون مرات ومرات، فلا يليق بحفيد سلاطين الدنيا، والأجداد الفاتحين، بعد أن
مكن الله له أن يقف على أبواب أوروبا وعتباتهم إلا ليريهم صورة آبائه وأجداده.
السيد الرئيس..
حققت نجاحات مبهرة في ميادين البنية التحتية، والخدمية بكل أنواعها من
مواصلات بشق الطرق وتعبيدها، والأنفاق وتحقيقها، والجسور وبنائها، وتعددت في عهدكم
أنواع المواصلات وكثرت، وازدادت فيها راحة المواطن وطمأنينته، وكذا الأمر إن
تحدثنا عن الصحة فقد بنيت المستشفيات، والمراكز، والمدن الطبية التي فاقت
التصورات، وكذا الأمر في ميدان التعليم جامعات ومدارس وعناية فائقة في توفير كل
السبل المادية التي من شأنها الارتقاء في البيئة التعليمية، ولا يقل الأمر أهمية
في جانب الاقتصاد، والسياحة، والتصنيع المدني والعسكري على حد سواء، فقد امتلكت
تركيا في عهدكم التكنولوجيا، بشقيها المدني والعسكري، حتى غدت في كليهما قبلة
التجار والدول ورجال الأعمال والشركات العالمية.
بعد هذه الإنجازات العظيمة، التي بوّأت تركيا الحديثة مكانة عالمية متقدمة،
إذ قفزت بفضل سياساتكم وإنجازاتكم لتحط رحالها في نادي العشرين الكبار، بعد أن
كانت تغط في سبات عميق في ذيل قافلة الدول، حيث الفقر والاستبداد والفساد، تئن تحت
وطأة ديون البنك الدولي، وفساد الإدارة، وسوء الخدمات، ويا له من إنجاز يدعونا
جميعاً للفخر والزهو، بحككم الرشيد، وإدارتكم الحاسمة الحازمة.
السيد الرئيس،،
آن الأوان أن تلتفتوا التفاتة جادة وعميقة للإنسان، فتؤسسوا لبنية تربوية
تحتية، للارتقاء بسلوكه، وضبط تصرفاته، وبناء شخصيته المتميزة، واحتضان روحه
المرهقة الموزعة بين ثقافات متناقضة، وتعودون به إلى فطرته السليمة الصحيحة،
المتصالحة مع ذاته، وثقافته، ومتعاوناً مع الآخرين، بعيداً عن جنسيتهم ولونهم ولغتهم،
نابذاً كل معاني التعصب القبيحة، والسلوك العنيف قولاً أو فعلاً، حتى يكون مضرب
المثل في خلقه واستقامته وسلوكه. فقد كثرت الشكوى، وعمّت البلوى كثيراً من محبيكم
ومحبي بلدكم، الداعمين، الداعين لكم بكل خير، الذين آثروكم على غيركم في سياحتهم
وقضاء إجازاتهم، أو استثمار أموالهم، وإنشاء مشاريعهم الاقتصادية.
السيد الرئيس،،
الكثير من القوانين والقرارات الحاسمة والحازمة التي تنتظر إقدامكم للنهوض
في مجتمعكم وإنسانكم، على جميع الأصعدة، التربوية التعليمية في المدارس والجامعات،
والمجتمعية الأسرية في إعادة تنظيم العلاقات الأسرية، وضبطها وربطها بثقافة الأمة
ودينها، وتأسيس الأسرة التي هي اللبنات الأساسية، في بناء المجتمع، وبالتالي إقامة
الدولة على أساس متين، فإن استيراد القوانين في هذين المحورين المهمين، شديدي
الحساسية، وبالغي الأثر، تنعكس آثاره السلبية على مجتمعنا وأجيالنا، فتكثر فيه
الثغرات، التي تنخر بنياننا الأسري، والتي تعمل فيه هدماً وتفككاً.
السيد الرئيس،،
بناء المساجد وترميمها وتهيئتها ميزة عظيمة امتازت بها فترة حكمكم، ولقد
وسمتك ذات مرة برجل المساجد، الذي أعاد للمسجد هيبته ومكانته، كما أنك أعليت مكانة
الإمام والخطيب، لكن هذا ليس كل شيء، فللمسجد في ديننا مكانة عظيمة، ورسالة كبيرة،
قد عُطلت منذ أمد طويل، في البلاد العربية والإسلامية، شُيّدت فيه المساجد وزينت، وبدت
أكثر فخامة وزينة، لكن بلا رسالة، جعلوها مفرغة من مضمونها.
فالخطوة المهمة التي تنتظركم بعد ترميم المساجد وبنائها، خطوة إعمارها، وإحياء
رسالتها في المجتمع، حتى تغدو قبلة الشباب، مزدحمة بالرواد، مكتظة بحلقات الذكر
والعلم، وهذا أمر يتطلب توجهاً، تؤسس عليه الخطط والبرامج، التي تنفذ هذا التوجه،
بخطوات راشدة، وعمل دؤوب.
السيد الرئيس،،
أختم رسالتي لفخامتكم، مؤكداً أن بقاءكم في حكم أكبر دولة مسلمة في المنطقة
-دولة هي وريثة دولة حملت راية الخلافة لقرون من الزمن، كانت فيها قِبلة العالم
الإسلامي، ومظلته التي أمن في ظلالها- كل هذا الوقت مرده لفضل الله عليكم، أن
حفظكم ووفقكم، وأجرى الخير على أيديكم، وهي من النعم العظيمة التي يجب أن
تستوقفكم، لتطيلوا المكث في محراب الشكر لله وحده، فبشكره تدوم النعم، وتحفظ،
وتزداد، ومن الشكر أن يكون دستور البلاد القادم، متوافقاً مع دستور من حفظكم
ووفقكم ورعاكم.