شهد اليوم الأخير من مؤتمر الأزهر لتجديد الفكر الإسلامي في القاهرة مفاجأة مثيرة تمثلت في رد شيخ الأزهر على هجوم رئيس جامعة القاهرة على الأشاعرة.
ولما كان الكلام مرتجلا، فقد حمل رسالة بالغة الأهمية تعبّر عن قناعات الرجل التي قد لا يجرؤ على البوح بها في ظل أجواء استثنائية تعيشها مصر منذ الانقلاب العسكري 2013، ولغاية الآن.
الفقرة المثيرة في كلام الشيخ هي قوله: "الفتنة التي نعيشها الآن هي فتنة سياسية وليست تراثية، والسياسة تخطف الدين اختطافا حينما يريد أهلها أن يحققوا هدفا مخالفا للدين".
يعيدنا كلام شيخ الأزهر إلى ما تحدثنا فيه مرارا خلال العشرية الأخيرة، ممثلا في سؤال العلاقة بين السياسي والديني في واقعنا العربي.
ففي حين دأب العلمانيون، ومعهم بعض اليساريين على إعلان رفضهم لاستخدام الدين في السياسة، فقد ردّ كثير من الإسلاميين بالمطالبة بتحرير الدين من سطوة الأنظمة.
وظهرت في السياق مجموعات سلفية وصوفية بدت أسوأ من العلمانيين، ذلك أن الأخيرين يقولون "ما لقيصر لقيصر وما لله لله"، لكن المجموعات إياها لم تلبث أن منحت "ولاة الأمر" ولاية مطلقة على الدين والدنيا معا، فيما كان علمانيون خليجيون يختصرون العلمانية في البعد الثقافي والاجتماعي مع تأييد مقولات المجموعات الدينية إياها في تأييد ولاة الأمر أيا يكن سلوكهم السياسي ورفضهم للتعددية والمشاركة السياسية، بل حتى قمعهم لحرية التعبير.
المصيبة التي تحدث عنها شيخ الأزهر لها وجه آخر، إذ تمّ تحميل أوزار صراعات سياسية ومشاريع عنف للدين؛ كأنه هو الذي وجّه مسيرتها، مع أن العقلاء يعرفون أن العنف ليس ظاهرة دينية، وإنما ظاهرة تحركها ظروف موضوعية (سياسية واجتماعية واقتصادية)، وإلا فهل كانت كتب التراث التي يتحدثون عنها غائبة ولم تُكتشف إلا في هذه المرحلة الأخيرة؟!
ثم لماذا حمل العنف ألوانا أخرى بحسب الأيديولوجيا التي كانت منتشرة في حينه؛ حيث كان يساريا، وكان وطنيا علمانيا، وكان قوميا، وكان إخوانيا وكان سلفيا، وما بين ذلك، كما هو حال العنف في مصر خلال الثمانينات وحتى مطلع التسعينات؟!
ولكن لماذا يريد السياسي تحميل التراث وزر العنف، ووزر مشاكل سياسية تواجهه، ويريد السيطرة عليها؟
إنه يفعل ذلك انطلاقا من مقاربة صاغها الصهاينة، وتبناها زين العابدين بن علي في مواجهته مع الإسلاميين خلال التسعينات، وتقوم على فكرة "تجفيف الينابيع"، وملخصها أن من غير الممكن محاربة البعوض من دون تجفيف المستنقع.
والمستنقع في الحالة الراهنة بحسب الخطاب السياسي، وإن لم يصرّح بذلك هو التدين، ولذلك كانت عمليات تشكيك الناس بدينهم وتراثهم (أموال طائلة تُصرف راهنا لهذا الغرض)، جزءا من هذه اللعبة، وليست بهدف التجديد الحقيقي الذي يطالب به كل العقلاء من أجل التعامل مع مستجدات العصر.
إنهم يرون أن التدين هو الذي يمنح الحاضنة الشعبية لما يسمونه "الإسلام السياسي"، ومن أجل ذلك لا بد من محاربته. ومحاربته لن تتم من دون محاربة الدين ذاته وتشكيك الناس فيه، وهذا ما يحدث الآن تحت يافطة التجديد من قبل فئات كارهة للإسلام في الأصل، أو تحاربه تبعا لجهة التشغيل.
من هنا تتبدى المهمة الصعبة التي يواجهها العلماء والمخلصون في هذه المرحلة، إذ أن عليهم بالفعل أن يجددوا في الخطاب الديني بحيث يستوعب المتغيرات، ويحول دول فقدان الصحوة الدينية لزخمها، والشباب ليقينهم؛ في ذات الوقت الذي لا يسمحون فيه للسياسي بأن يحرف مسار الدين والتدين في الاتجاه الذي يريده، وذلك برفض وصايته على الدين على نحو يجعله يتلاعب به، ويفضّ الناس من حوله.
رسالة لمحمد علي وآخرين.. ماذا سيحدث اليوم 25 يناير 2020؟
ثورة وجنس وأكاذيب (إلى الرئيس9)