منذ انطلاقة الانتفاضة أو الحراك أو الثورة في
لبنان في السابع من تشرين الأول/ أكتوبر، لا تزال المواقف العربية منها ضبابية، خصوصا للدول التي تسمى حليفة لأمريكا ومشروعها في المنطقة.
ولا يخفى على أحد أن مسارات الدولة الأساسية السياسية والاقتصادية والمالية متوقفة، بانتظار اندفاعة من جديد تحتاج بالمعنى السياسي إلى جرعة دعم دولية يصعب التكهن بمن سيتبناها، وإن كان هناك من له القابلية في التبني من الأساس.
فغداة استقالة رئيس الحكومة السابق سعد الحريري تكرر في أكثر من صالون سياسي أن الاستقالة لم تكن لولا الإذن أو التنسيق مع الولايات المتحدة والمملكة العربية السعودية، أو ما يعرف بـ"قبة باط" على الطريقة اللبنانية. وهنا حسم الجميع الأمر بأن الحريري عائد إلى السراي لا محالة، حيث الميثاقية بالمعنى اللبناني تؤكد قوة الرجل في بيئته، خاصة إذا ما أضفنا التأييد من المؤسسة الدينية المتمثلة بدار الإفتاء ومرجعيتها الروحية والسياسية الوطنية، والذي أعلنته مرارا وأبلغته صراحة للمرشح لرئاسة الوزراء سمير الخطيب، وأن الشارع السني يميل لتسمية الحريري. وحتى تلك اللحظات كانت المؤشرات تقول إن الأمريكيين يريدون تحسين وضع الحريري في السلطة من خلال حكومة جديدة يكون له فيها الدور الفاعل.
غير أن المجريات وتسلسل الأحداث أوصل الدكتور حسان دياب إلى رئاسة الحكومة، وحينها تجلى موقف صادم من الكثير من الصحف والمنتديات الأمريكية الذي وصف الحكومة بحكومة حزب الله، وبالتالي شكل بداية الطريق الوعرة لرئيس الحكومة أثناء عملية التأليف، والتي مرت بمطبات هوائية وسياسية كبرى أفضت إلى حكومة من "دزينة أمريكان" يحملون الجنسية الأمريكية، واختلفت التسميات فيها؛ فيسميها البعض حكومة حزب الله الصرفة. وأكد الحزب أنه شريك في الحكومة وقرارها السياسي والاقتصادي، لكنه قطعا لم يقل "الأمر لي" في الحكومة، تاركا لرئيسها بلورة موقف متوازن يعيد الثقة الدولية لها.
وهذا ما أكده نائب الامين العام لحزب الله الشيخ نعيم قاسم بقوله: "نحن نسأل الحكومة أن تنجز بحسب إمكاناتها وقدراتها وما هو متاحٌ في لبنان، وأن توسّع اتصالاتها الإقليمية والدولية من أجل أن تحمي خيارات لبنان المستقلة والاقتصادية. وهذا سيكون محلّ مراقبة، وستنكشف إن شاء الله الوعود الصادقة من الوعود الكاذبة. نحن نتأمل أن تكون هذه الحكومة خطوة مهمة على طريق الاستقرار السياسي والاستقرار
الاقتصادي. يجب أن نعمل معها وأن نعطيها الفرصة المناسبة". بذلك يؤكد الشيخ قاسم ضرورة وخطورة النظرة الإقليمية والدولية تجاه الحكومة.
إن رئيس الحكومة الدكتور دياب وصف حكومته بحكومة الاختصاصيين، غير أن الشارع أسماها حكومة "تكنو-محاصصة"، بالإشارة إلى بقاء القوى السياسية في الحكومة صاحبة الحل والعقد، وبالتالي اعتبر الحراك نفسه الزوج المخدوع بعدما أصر رئيس البرلمان على إشراكه في السلطة، غير أن الولادة الحكومية لم تحمل اسم أي وزير من الحراك، في حين سماها أحدهم بحكومة المستشارين.
وهنا أطل مُساعد وزير الخارجية الأمريكي لشؤون الشرق الأدنى، ديفيد شينكر، في مقابلة خاصة مع قناة "الحرة" الأمريكية، وقال إن الولايات المتحدة ستتابع عن كثب إن كانت الحكومة اللبنانية الجديدة ملتزمة بمحاربة الفساد وإخراج لبنان من أزمته المالية، وبالتالي لم يفرط في المدح أو الذم، تاركا الباب مفتوحا على التأويلات، غير أن الكلام الصادم خرج صبيحة الاثنين، عندما أعلن من إسرائيل أن "الاقتصاد اللبناني في وضع أسوأ مما يظن البعض، حيث نعتقد أنّ الاحتياطات الأجنبية (العملات) أقل بكثير مما تمّ الإبلاغ عنه علنا". إن في مكان الإعلان دلالات خطيرة تبدأ مع ترسيم الحدود البرية والبحرية بين لبنان ودولة العدو، وتكتمل بما يليها من بلوكات الغاز البحرية المتنازعة (بلوك 9)، ولا تنتهي مع العقوبات الأمريكية الملوح بها على كافة القطاعات الاقتصادية والمالية، وصولا إلى صفقة القرن وما يريد السيد الأمريكي من لبنان فيها.
لقد قال شينكر كلاما يحمل إشارات خطيرة على الصعد الاقتصادية والمالية والنقدية، ضاربا عرض الحائط بكل التطمينات الصادرة عن حاكم مصرف لبنان رياض سلامة الذي أكد لفرانس 24 "مصرف لبنان أعلن بعدما فتحت المصارف بعد 17 تشرين الأول/ أكتوبر، أنَّ أي مصرف لن يُفلس لذلك المودع لن يخسر ودائعه، وهي تُستخدم بالعملة التي يريدها الزبون". وأكد أن الوضع المالي والنقدي متين بسبب قوة الاحتياطيات الاجنبية والذهب. وأوضح المصرف المركزي أنّ قيمة الاحتياطي من العملات الأجنبية تقدّر بما يقارب 30 مليار دولار أمريكي.
إلى ذلك، قال رئيس جمعية المصارف اللبنانية سليم صفير إنّ الوقت ليس ملائما لاندماج المصارف لأنّه مكلف، ولكنّه لا يؤثّر أبدا على المودعين. وأشار إلى أنّ السيولة موجودة ولا مخاوف على المصارف المؤتمنة على ثقة المودعين، وهدفنا مساعدة الوطن، علما أننا نعلم ان خدمة الدين الخارجي للعامين المقبلين تقدر بحوالي 6.5 مليار دولار حسب موديز.
وهنا يسأل المواطن المنتظر على أبواب المصارف في طوابير الانتظار التي لا تنتهي: ترى من نصدق؛ الأمريكيين أم المسؤولين في القطاع المالي والنقدي اللبناني؟ وأخشى أن تكون الإجابة على طريقة رئيس وزراء قطر الأسبق الشيخ حمد بن جاسم، حين أجاب عشية الحرب على العراق: "أصدق رامسفيلد".
كذلك يقف المراقب منتظرا ماذا سيحمل شينكر من جديد للبنان، حكومة وشعبا، خاصة أننا بعد عملية اغتيال الجنرال سليماني وفي زمن صفقة القرن الأمريكية، حيث الوعود من صهر الرئيس الأمريكي كوشنير بالمليارات على من يركب في ركابها. فهل بعد سجل زيارته السابقة والتي لم تقدم جديدا على المسارات المشار إليها سابقا؛ يكون شينكر بحلة جديدة تظهر موقفا واضحا تجاه حكومة لبنان الجديدة، وبالتالي تمهد للمراحل القادمة من التعاطي مع الحكومة اللبنانية؟
إن الانفراج في العلاقة بين الحكومة الأمريكية وحكومة لبنان قد يشكل مدخلا للمساعدة من العديد من الدول التي تمتلك مفاتيح الحل المالي فقط، ولكن في السياسة هل يرغب الأمريكي في مساعدة لبنان بالفعل؟! وهل تملك الحكومة اللبنانية خيارا إلا التحدث مع الأمريكيين للخروج من المأزق؟