انتخابات برلمانية كانت أقرب إلى الزلزال السياسي، ورسالة بأن حزب "شين فين" (نحن أنفسنا) وضع ماضيه وراءه، قاطعا جميع صلاته السابقة بـ"الجيش الجمهوري الأيرلندي".
سيدة من جيل أصغر سنا لم يكن لها أي دور مباشر في الحرب "الطائفية" التي شهدتها أيرلندا الشمالية على مدى 30 عاما، تتولى زعامة الحزب خلفا لقائد تاريخي كان الوجه الأبرز في "الجيش الجمهوري الأيرلندي".
ماري لو ماكدونالد المولودة عام 1969 بأيرلندا لأب كان يعمل في المساحة والبناء، حاصلة على درجة البكالوريوس في الأدب الإنجليزي من كلية "ترينتي" في دبلن. كما درست العلاقات الصناعية في جامعة "دبلن سيتي"، وحصلت على درجة الماجستير في الآداب في دراسات التكامل الأوروبي من جامعة "ليمريك" عام 1995.
شهدت حياتها المهنية تنوعا كبيرا فقد عملت مستشارا لمركز الإنتاجية الأيرلندي، وباحثة في معهد الشؤون الأوروبية، ومدربة في وحدة الشراكة في صندوق الخدمات التعليمية والتدريبية.
انخرطت ماكدونالد في "المؤتمر الوطني الأيرلندي"، وهو منظمة جماعية متعددة الأحزاب، وأصبحت رئيسة له عام 2000، وفي عام 2004 أصبحت ماكدونالد أول عضو في البرلمان الأوروبي عن "شين فين" في جمهورية أيرلندا عن دائرة دبلن الانتخابية.
وفيما بعد ستنجح ماكدونالد في الفوز بالانتخابات البرلمانية بأيرلندا عن الدائرة الانتخابية المركزية في دبلن عام 2011 ، وأعيد انتخابها عام 2016 بعد أن احتلت المرتبة الأولى في دبلن.
وسيقدم الزعيم التاريخي لحزب "شين فين" الجمهوري اليساري، جيري آدامز عام 2018 على خطوة "تاريخية" بإعلان أن نائبته ومساعدته ماري لو ماكدونالد ستخلفه على رأس الحزب الذي لطالما اعتبر بمثابة الواجهة السياسية لـ"الجيش الجمهوري الأيرلندي".
وكان أدامز واحدا من أبرز الوجوه السياسية في أيرلندا الشمالية، وأحد الأطراف التي قادت المفاوضات التي أدت إلى اتفاق "الجمعة العظيمة" عام 2005 والذي أنهى عقودا من المواجهات الدامية بين "الجيش الجمهوري الأيرلندي" وبريطانيا.
وجرى الانتقال بشكل سلس بالنظر إلى أن من تخلفه ليست سوى ساعده الأيمن التي انتخبت على رأس الحزب بدون منافسة، وذلك بعدما أمضت عشر سنوات في منصب نائبة رئيس الحزب.
وفي خطاب لها أثناء تنصيبها أشادت ماكدونالد بسلفها، وقالت: "لا يمكنني أن أكون بجدارة جيري آدامز، لكنني سأستخدم كل قدراتي للقيام بمهامي على أكمل وجه".
اقرأ أيضا: فوز "شين فين" في أيرلندا: هل تمتد آثار "الزلزال" لبريطانيا؟
وأكدت أن هدف الحزب، هو إعادة توحيد أيرلندا، مؤكدة أنها "ترغب في وصول الشين فين إلى السلطة، في أيرلندا الشمالية والجمهورية الأيرلندية".
وأصرت على أنها ليست "دمية" لسلفها آدامز، ردا على مزاعم قالت بأن الزعيم السابق لا يزال مسؤولا عن الحزب بشكل فعلي، كما أشيع وقتها. وقالت: "لقد قاد جيري الحزب لفترة طويلة جدا ولكن أنا زعيم الشين فين وسوف أقود".
وقالت إنها تريد مضاعفة شعبية الحزب في السنوات المقبلة، مضيفة أن هدف الحزب في الفترة المقبلة هو الفوز في الانتخابات.
طموح ماكدونالد في الفوز بالانتخابات لم ينتظر طويلا فقد حققت قبل أيام قليلة فوزا مذهلا وصاعقا دفعها إلى الحديث بثقة، بأنها تعتزم إجراء محادثات مع كل الأحزاب السياسية الأيرلندية بعد نتائج انتخابية، وصفها خصومها بـ"تاريخية".
وصدمت نتائج الانتخابات، المؤسسة السياسية الأيرلندية التي يهيمن عليها منذ سنوات "الحزبان الكبيران" بشكل تقليدي "فيني فيل" (جنود المصير) و"فين غايل" (العائلة الأيرلندية) الذي يبقى الخاسر الأكبر في هذه الانتخابات بعد أن فقد غالبية مقاعده.
ماكدونالد أعلنت بفخر أن حزبها "على وشك التوصل إلى صفقة تتعلق بالاتفاق والالتزام "بتقاسم السلطة فعليا" في أيرلندا الشمالية. وأضافت أن الأمر "لا يتعلق بالبرتقالي والأخضر(ألوان الحزب)، وإنما بالحقوق".
وحول الوحدة الأيرلندية، تؤكد أن: "الحرب انتهت، ولا قيمة في الانخراط في لعبة اللوم، وليس علينا أن نتفق على الماضي، بل يجب أن نتفق فقط على أن الماضي لن يتكرر مرة أخرى".
ولأول مرة منذ استقلال أيرلندا عام 1922، يحصد "شين فين" ربع الأصوات في الانتخابات العامة، ومن المحتمل أن يشكل الحزب حكومة ائتلافية، ويبدو أنه بدأ بالفعل التشاور بانتظار النتائج النهائية للانتخابات.
وهو ما بدا واضحا من خلال تصريحات زعيمة الحزب التي تؤكد على تشكيل "حكومة من أجل الشعب". وأضافت أنه يفضل ألا تضم هذه الحكومة أيا من الحزبين الوسطيين، مشيرة إلى أنها على تواصل مع أحزاب صغيرة مثل "الخضر" و"الاشتراكيين الديموقراطيين".
ولا زال توزيع مقاعد البرلمان البالغ عددها 160 مقعدا طي التكهنات بسبب النظام الانتخابي المعقد، كما أن الناخبين لا يمنحون أصواتهم للائحة معدة مسبقا، بل يشكلون لائحتهم الخاصة عبر وضع الناخبين بترتيب قائم على "المفاضلة".
وبعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي الشهر الماضي باتت أيرلندا وسكانها البالغ عددهم 4,9 ملايين نسمة في خط المواجهة الأمامي.
ويمكن أن ينعكس هذا الفوز على أيرلندا الشمالية التي يمثل فيها "شين فين"، الداعي للانفصال عن المملكة المتحدة وإعادة التوحد مع جمهورية أيرلندا، القوة السياسية الثانية في البرلمان المحلي والبرلمان المركزي في "ويستمنستر" رغم أن نوابه لا يشغلون مقاعدهم في البرلمان البريطاني لأنهم يرفضون أداء القسم الذي يتضمن إعلان الولاء للملكة.
ولكن بعد عقدين من السلام وتولي ماري لو ماكدونالد التي تقيم في دبلن، زعامة الحزب، لقيت سياسات الحزب اليساري بشأن معالجة أزمات الإسكان والصحة، تأييدا لدى الناخبين، وخصوصا في صفوف الشباب.
وفي محاولة للنأي عن الماضي، دعت ماكدونالد أعضاء حزبها لتجنب ترديد الشعارات السابقة والتي كان يستخدمها "الجيش الجمهوري الأيرلندي"، وأشارت تسريبات إلى أن أعضاء في الحزب احتفلوا بفوزهم في الانتخابات عبر ترديد بعض هذه الشعارات، بعد حملة انتخابية طويلة.
ويبدو أن ما جرى في جمهورية أيرلندا قد ترك صدى في بريطانيا. وفي هذا السياق، أبدت وسائل الإعلام البريطانية اهتماما لافتا بصعود "شين فين"، مع تحليل أثر ذلك على وحدة المملكة المتحدة من جهة، واحتمالات تأثير هذه النتيجة على مسار "بريكست" ومفاوضات التجارة بين بريطانيا والاتحاد الأوروبي.
ومع تقديرات في "بريكست" تنص على اتفاق الخروج مع وضع خاص لشمال أيرلندا داخل الاتحاد الأوروبي الجمركي، قد يدفع الشطر الشمالي ليقترب أكثر من جمهورية أيرلندا، ويعزز التوجهات لدى الأيرلنديين للوحدة، وفد أظهر استطلاع أجراه "حزب المحافظين" في بريطانيا، أن نحو 45 % من سكان أيرلندا الشمالية باتوا مؤيدين للوحدة مع جمهورية أيرلندا.
اقرأ أيضا: كاتب روسي: هل تحمل "بريكسيت" مخاوف الانقسام لبريطانيا؟
كما اعتبرت صحف بريطانية أن فوز "شين فين" قد يجعله أكثر "عدوانية" تجاه بريطانيا في مفاوضات التجارة بعد "بريكست".
ولا يتفق "شين فين" مع لندن في قضايا كثيرة داخلية وخارجية خصوصا ما يتعلق بالقضية الفلسطينية، فقد كانت حكومة أيرلندا من أوائل الحكومات والبرلمانات التي اعترفت بدولة فلسطين وما زال الحزب يطالب بطرد السفير الإسرائيلي من أيرلندا وهنالك 17 بلدية محلية في أيرلندا تبنت مقاطعة "إسرائيل".
ويمتلك سكان أيرلندا الشمالية وجهات نظر حاسمة ومتباينة حد التناقض حول فلسطين. ففي الشطر الكاثوليكي من مدينة بلفاست، الذي يهيمن عليه القوميون الأيرلنديون، تعرض لوحات جداريه تعبر عن معاناة الفلسطينيين في غزة وتدعم إضراب الأسرى الفلسطينيين في سجون الاحتلال الإسرائيلي عن الطعام، في المقابل، يمكن رؤية العلم الإسرائيلي بكثرة في الشطر البروتستانتي من عاصمة أيرلندا الشمالية.
وحينما يتأزم الوضع في القدس والأراضي المحتلة، تحتد المواقف وتبرز التباينات في بلفاست، على خلفية التطورات على جبهة القضية الفلسطينية.
وتؤكد زعيمة "شين فين" التي زارت فلسطين واطلعت على الواقع المأساوي الذي يعيشه الشعب الفلسطيني تحت الاحتلال على أهمية الدور الأيرلندي في التضامن مع الشعب الفلسطيني، تقول ماكدونالد: "أيرلندا عاشت الاستعمار والاحتلال في الماضي ونحن هنا نعرف أهمية المقاومة من أجل الحرية". مطالبة بفرض عقوبات على الاحتلال الذي يستمر في انتهاك حقوق الفلسطينيين.
وبعيدا عن المواقف المتباينة داخليا وخارجيا فقد نجحت ماكدونالد في إخراج "شين فين" من عزلته والحصار المفروض عليه، مع التمسك بمبادئ الحزب، ولقيت طروحاتها قبولا على مواقع التواصل الاجتماعي التي كانت مصدر قوة الحزب.
وبعد تولي ماكدونالد زعامة الحزب، تولت ميشيل أونيل زعامة فرع الحزب في الشمال، وهي تشغل منصب نائبة رئيسة الحزب، ونائبة رئيس حكومة شمال أيرلندا.
فلسطين.. تاريخ من "الصفقات" و"النيران الصديقة" (بورتريه)