على وقع الاحتجاجات المتلاحقة أمام مبنى المصرف المركزي وجمعية المصارف
اللبنانية من معظم الأطراف السياسيين المعترضين، وهم المنتفضون في الساحات منذ 17 تشرين الأول/ أكتوبر 2019، إلا أن السبحة وصلت في الشارع للاعتراض إلى من هم في سدة السلطة والمسؤولية، وما جرى الخميس (20 شباط/ فبراير 2020) في شوارع مصرف لبنان والأماكن المحيطة يرقى ليكون سيناريو سينمائيا قد يحل ضيفا ثقيلا على شوارع لبنان في الأسابيع المقبلة، وذلك يرفع معه منسوب الخطر على سلم البلاد الأهلي والاجتماعي والسياسي، ويستلزم من المؤسسات الأمنية مزيدا من اليقظة.
ويتزامن هذا مع نيل حكومة لبنان الجديدة برئاسة الدكتور حسان دياب الثقة (المهربة والهزيلة) من المجلس النيابي، والذي على ما يبدو سيكون عرضة لتقصير ولايته نظرا لكثافة الدعوات الشعبية المطالبة بإجراء انتخابات نيابية مبكرة. وقد لاقت الدعوة للانتخابات المبكرة ردا إيجابيا من عدة قوى سياسية، على رأسها القوات اللبنانية والكتائب وكتلة الوسط المستقل برئاسة الرئيس نجيب ميقاتي. وقد يكون تسارع الأحداث أداة رئيسة للتوجه نحو هذا الخيار.
وفي ظل صوت أنين الناس وإذلالهم الممنهج على أبواب المصارف لكي يتسولوا من أموالهم الخاصة داخليا، ومع الانكفاء العربي المريب عن لبنان حكومة وشعبا وسلطات عربيا، ومع تعقد مسارات الإقليم من إدلب السورية وصولا إلى أنقرة وموسكو، وموقف الناتو مما يجري مضافا إليه التصريحات الأمريكية اللاذعة تجاه الجمهورية الإسلامية في إيران ودورها التخريبي في المنطقة أمريكيا، ومع تصاعد نبرة الإلحاح على الحكومة اللبنانية في تطبيق الإصلاحات والبعد عن حزب الله وإلا العقوبات الجديدة قادمة على لبنان أفرادا ومؤسسات وكيانات، وذلك ما أعلنه صراحة ديفيد شينكر في حديثه الأخير عن لبنان.. في ظل كل ذلك برز وصول وفد البنك الدولي لإبداء المشورة في خطة اللا خطة التي تنوي الحكومة اللبنانية تنفيذها.
إن لبنان واللبنانيين باتوا أسرى وسجناء في واقعهم اليومي لمصطلحات
مالية ونقدية تؤرق أموالهم وجيوبهم، وتزيدهم نقمة على كل السلطة السياسية، فبات اللبناني أسير حالة الحيرة للسلطات أمام الاستحقاقات المالية والنقدية والاقتصادية القادمة، التي تبدأ مع عدم الوفاء للدائنين بسندات اليورو بوند التي تستحق في بداية آذار/ مارس المقبل والتي تبلغ مليارا و200 مليون دولار. أضف إلى ذلك احتمالات الذهاب إلى إعادة الهيكلة أو إعادة الجدولة. وماذا عن الهيركات للودائع؟
أسئلة تنزل كالصواعق على رؤوس اللبنانيين العاديين الطيبين البسطاء الذين ينامون ويحلمون بغد أفضل لهم ولأبنائهم.
وتعتبر إعادة الهيكلة للقروض عموما والسيادية، خصوصا تعديل الجدول الزمني لسداد القرض الأصلي وذلك بغية التعويض عن الأحداث غير العادية التي تواجه العميل. ويسمى هذا الإجراء إعادة هيكلة القرض لأن القرض يتخذ صيغة وشكل جديد، وبذلك يتضمن القرض الذي أعيد هيكلته شروطا مختلفة عن القرض الأصلي من حيث سعر الفائدة، والمبلغ المسدد شهريا، ومواعيد سداد
القروض، وشروط و/ أو الضمانات الإضافية، ولكن دون ذلك عقبات في المسألة اللبنانية داخليا وخارجيا.
أما إعادة الجدولة للقروض العادية أو السيادية فهي تعديل الجدول الزمني لسداد قرض قائم بالفعل بحيث يمكن السداد على مدى فترة أطول، وعادة بأقساط منخفضة. وحتما تتم جدولة القروض لاستيعاب المقترض الذي يمر بضائقة مالية كحال الدولة اللبنانية في هذه الأيام الصعبة، وبالتالي مساعدته لتجنب التوقف عن السداد. إن إعادة جدولة القروض السيادية أو العادية هي إحدى عمليات إعادة هيكلة القرض فعليا.
وتاليا، هي لعبة الشروط الدولية، والتي أعتقد جازما في حالتنا الدولية والإقليمية الحالية من صفقة القرن وصولا إلى الإقليم المتأزم، بأن ليس للبنان القدرة في احتمال الشروط الدولية، والتي ستكون أداة خطرة للتفجير السياسي في الداخل في كلا الحالتين، قبولا أو رفضا.
وعليه، ما هي السناريوهات القادمة في زمن وباء الكورونا الذي يضرب المالية العامة؟
السيناريو الأول وله منظروه وداعموه، وقوامه عدم التخلف ودفع المستحقات وتعريض ودائع الناس، وذلك بحجة الحفاظ على السمعة للدولة اللبنانية في الاسواق المالية الدولية. وهنا السؤال: عن أي سمعة نتحدث وقد قالت فينا الوكالات ما لم يقله مالك بالخمر؟ فوكالات التصنيف الائتماني الكبرى فيتش وستاندرد آند بورز وموديز، مضافا إليها وكالة بلومبرغ بتقريرها الأخيرة التي أكدت حساسية وخطورة، لا بل بداية الانهيار في لبنان من خلال تصنيفاتها.
أما السيناريو الأرجح والأنسب فيبدأ مع مصارحة اللبنانيين بكامل الشفافية في الأرقام والموازنات، وما هي الوجبات الجاهزة القادمة من البنك الدولي، وما هي الحال القادمة للسنوات المقبلة.
وهذا بالتزامن مع وضع طاولة حوار حقيقية وشفافة مع حملة السندات اللبنانية في الداخل والخارج، وبلورة آلية للتفاوض للبدء بإعادة الهيكلة والجدولة، ليس فقط للاستحقاق القادم في آذار/ مارس 2020، بل لكل الاستحقاقات المالية القادمة، أقلها لثلاث سنوات حتى العام 2023، والتي تبلغ حوالي تسع مليارات دولار. وبسرعة فائقة نشرع مع الدائنين على طاولة الحوار بالعمل على إنهاء حالة الكورونا المالية المتمثلة بالكهرباء ثم الكهرباء أولا، والتي هي معمل لنزيف المالية العامة، وثانيا مراجعة سلسلة الرتب والرواتب والعودة عن جزء كبير من تقديراتها الخاطئة، والتي لم تستسغها المالية العامة بفعل غياب النمو ومباشرة السعي في تقليل القطاع العام ورفع إنتاجيته بما يتلاءم مع الأوضاع الاقتصادية الحالية.
إن ذلك بداية رؤية للحال، وإلا سيبقى اللبناني يصبح على إعادة الجدولة وينام على الهيركات في زمن الكورونا المالية.