المتابع لما يمكن تسميته "الجولة الثانية" للحراك العربي الشعبي ضدّ السلطة الحاكمة وفسادها السياسيّ والاقتصاديّ المركّب في كلٍّ من العراق ولبنان والجزائر، لا يجد صعوبة في اكتشاف وجود معضلة ذاتيّة كبيرة لدى الحراك، تحوّلت إلى تهديد، لا يقلُّ في خطورته عن تهديد الأنظمة وسطوتها القمعيّة.
المشكلة تكمن في العجز عن تحويل الحالة العفويّة والارتجاليّة للحراك إلى عمل منظَّم وفاعل، يطرح حلولا منطقية ومطالب واقعية بعيدا عن المثالية والمشاريع الحالمة بالمدينة الفاضلة.
صحيح أنّ الحراك في بعض محطّاته في هذه الدول أجبر السلطة على تقديم تنازلات مهمّة وحقيقيّة (الإطاحة ببوتفليقة في الجزائر، واستقالة حكومتي الحريريّ وعبدالمهديّ في لبنان والعراق)، إلا أنّ الحراك بدأ يفقد زخمه مع التشتّت والغموض في الرؤية الجمعيّة للمنخرطين في هذه الحراكات.
حالة التشتّت هذه تتّخذها السلطة ذريعة، تارة لمهاجمة الحراك وربطه بالتدخل الخارجيّ، وتارة أخرى بوصفه بالعشوائيّة والعبثيّة وتهديد السلم الأهليّ، وثالثة للقول إنّه لا يوجد ممثّلون حقيقيّون يمكن الجلوس معهم للاستماع إلى المطالب، وبالتالي سنوح فرصة ذهبيّة لهذه السلطة للتنصّل من أيّ التزامات أو تعهّدات بتحقيق شيء.
أنظمة الحكم في بلادنا، لا تتعلّم من تجارب مثيلاتها في السنوات الأخيرة، إلا بما يخدم أجندتها القمعيّة، ويعزّز من سطوتها، ويراكم من مكتسباتها الفئويّة، وهذا ما لا يدركه الشباب في الميادين والساحات مزهوًّا بالزّخم وانتصارات جزئيّة هنا وهناك.
ومقارعة السلطة الحاكمة التي تمرّست جيّدا على قمع الثّورات وتفتيت الأحزاب واختراق المعارضات يحتاج إلى أكثر من مظاهرات يوميّة، واعتصامات هنا وهناك وشعارات رنّانة لا تستند إلى خطّة عمل حقيقيّة.
وخطّة العمل هذه لا يمكن أن تأتي من خلال حراك عفويّ غير منظّم، لا يتّفق مع الحدّ الأدنى من مطالبه، بل في محطّات معينّة يدبُّ الخلاف فيها على الأولويّات قبل أن يتحوّل الخلاف إلى انقسام.
ولعلَّ من الإنصاف -هنا- القول إنّ الحراك في الموجة العربيّة الأولى -في مصر على سبيل المثال- استطاع التوافق مع كيانات وأجسام ثوريّة استطاعت على الأقلّ إحداث هامش مناورة مع السلطة، قبل أن تتظافر جهود الأنظمة وقوى الثورات المضادّة لإحباطه والانقلاب على خيارات الشعوب.
في حالة لبنان، انتفض الحراك منذ أكتوبر من العام الماضي ضدّ منظومة فساد مركّبة سياسيًّا واقتصاديًّا، ونجح -بلا شك- في كسر تابوهات سياسيّة وطائفيّة، لكنّه -حتّى الآن- لم يتمكّن من تشكيل حالة ندّية مع السلطة، تفرض نفسها قوّةً ضمن معادلة التفاوض، بدلاً من أن تحاور السلطة نفسها بأحزابها وطوائفها.
وفي العراق -الذي لا يختلف كثيرا عن لبنان في ظروفه وانقساماته- يواصل الحراك تجاوز ما كان خطوطا حمراء من حيث المطالب والمقدّسات السياسيّة على الرغم من دموية السلطة، إلا أنّ الشباب الثائر لم يوفَّق إلى الآن في بناء واجهة موحَّدة تكون مرجعيّة سياسيّة وتنظيميّة للحراك ذاته، وتنسف ذرائع السلطة بأنّه "لا يوجد من نفاوضه".
أمّا الجزائر، فعلى الرغم من الإنجاز الأكبر الذي تحقّق بالإطاحة ببوتفليقة وجزء كبير من نظامه، فإنَّ الحراك دخل مواجهة مع المؤسّسة العسكريّة برؤية غير واضحة، توَّجها بمقاطعة الانتخابات التي حصلت وفرضت واقعا سياسيًّا جديدًا، أضحى الحراك في ظلِّه شبه معزول.
لا ندعو -بطبيعة الحال- إلى تلوين الحراك سياسيًّا، بل نتفهَّم التخوُّف من سطوة التنظيمات والأحزاب، ومحاولتها استثمار الحراك، لكنَّ هذا لا يلغي ضرورة امتلاك رؤية تفرز ما يمكن تسميته "تنسيقيّات" تتّفق على الخطوط العامّة وتؤجّل ما يُختلَف عليه.
التجربة أثبتت -للأسف- أنَّ لأنظمة الفساد العربية نفسًا طويلًا، مدعومًا بقوى الثورات المضادّة، وبواقع دوليّ لا يضع حقوق الإنسان وقيم العدالة والديموقراطية في ميزان علاقاته، وهذا كلُّه يفرض على الحراكات الشعبيّة تفكيرا خارج الصندوق وخروجا عن المألوف.