استفحلت الأزمة الاقتصادية في فنزويلا، على خلفية العقوبات الأمريكية المؤلمة التي أدت إلى انهيار الإنتاج وانفلات معدلات التضخم وبلوغها 9585 بالمئة في 2019.
وأظهرت دراسة أجراها برنامج الغذاء العالمي للأمم المتحدة، أن اقتصاد البلاد في حالة "سقوط حر"، وأن واحدا من بين كل ثلاثة فنزويليين يعاني كثيرا حتى يتمكن من تأمين ما يكفي من الطعام، لتلبية الحد الأدنى من متطلبات التغذية، وفقا لـ"بي بي سي".
وخلق انهيار العملة الفنزويلية "بوليفار" ما يسمى بـ"اقتصاد المقايضة" التى تجعل الفنزويليين يقبلون الحصول على الغذاء من البيض والسكر والخبز مقابل العمل بسبب النقص الحاد فى الغذاء.
وأظهرت الدراسة أن 74 بالمئة من الأسر تتبنى ما يسمى بـ"اقتصاد المقايضة" (العمل مقابل الغذاء)، و20 بالمئة يضطرون إلى بيع ممتلكاتهم من أثاث وملابس مقابل الغذاء.
وأدى التدهور الاقتصادي في السنوات القليلة الماضية إلى استنزاف مدخرات الفنزويليين، وتضخم أسعار السلع، حتى اختفائها من رفوف المحلات التجارية خارج العاصمة كراكاس. فأصبحت الصفوف الطويلة خارج محطات الوقود، والسباقات المحمومة على الفاصوليا المعلبة وأكياس الطحين مناظر اعتيادية.
ودفعت الأزمة الاقتصادية العميقة، ونفاد مدخرات الفنزويليين، العديد من الفنزويليات إلى التخلص من أطفالهن لعدم قدرتهن على تدبير احتياجاتهم الأساسية.
اقرأ أيضا: فنزوليون يتناولون لحوما فاسدة بسبب الأزمة الاقتصادية
"ممنوع إلقاء الأطفال هنا"
وبعد العثور على طفل حديث الولادة مرميا في حاوية قمامة قرب مبنى سكني في العاصمة كاراكاس، قام الفنان الفنزويلي، إريك ميجيكانو، بتوزيع لافتات في محتلف أنحاء فنزويلا كتب عليها "ممنوع إلقاء الأطفال هنا".
ويقول الفنان، إريك ميجيكانو، إنه أطلق حملة لتنبيه الناس لحقيقة أن أمرا في فنزويلا "أصبح شائعا ولكن لا ينبغي اعتباره طبيعيا".
وتنتشر حالات الحمل غير المرغوب في البلاد بسبب صعوبة الوصول لوسائل منع الحمل، إلى جانب المصاعب المالية لدى كثيرين.
كما أن قوانين الإجهاض الصارمة، التي تسمح بإنهاء الحمل فقط في الحالات التي تكون فيها حياة الأم في خطر أو عندما يكون الجنين غير قابل للحياة، تحد من خيارات المرأة التي تمر بظروف صعبة.
وقالت جمعية خيرية إن عام 2018 شهد ارتفاع عدد الأطفال المتروكين في الشوارع أو عند مداخل الأبنية بنسبة قدرها 70 بالمئة.
ولم تصدر الحكومة الفنزويلية أية أرقام رسمية في السنوات الأخيرة حول هذا الموضوع، كما لم توافق وزارة الإعلام ولا الجهة الحكومية المسؤولة عن حقوق الأطفال على طلب بي بي سي التعليق على الموضوع.
لكن عاملين في الخدمات الاجتماعية والصحية، أكدوا وجود زيادة في عدد الأطفال المتروكين، وكذلك زيادة كبيرة في عدد الأطفال الذين عرضوا للتبني بشكل غير رسمي.
"طرق مختصرة"
فسّر نيلسون فيلاسميل، وهو عضو مجلس حماية الطفل التابع لواحدة من أفقر المناطق في كاراكاس، سبب ذلك قائلا إن أمهات يائسات يلجأن إلى طرق مختصرة بسبب نظام التبني سيئ التمويل الذي يعاني من فوضى تامة.
قصة الطفل توماس (اسم مستعار) مثال على حالات التبني تلك؛ إذ كان قد ولد لأم فقيرة تعيش في كاراكاس وشعرت أنه لا يمكن لها تربيته.
وافق طبيب النساء الذي كان حاضرا وقت ولادة توماس على مساعدة الأم، وقال إنها لم تكن المرة الأولى التي يصادف فيها أما تشعر بأنها لا تستطيع تربية طفلها.
ويوضح قائلا: "غالبا ما تغير الأم رأيها بمجرد أن تُرضع طفلها أول مرة. لكن أحيانا لا يحدث هذا لذا علينا أن نجد حلا".
اقرأ أيضا: الرئيس الفنزويلي يبدي استعداده لحوار مباشر مع ترامب
اتصل الطبيب بإحدى المريضات، وكانت في الأربعينيات من عمرها وتحلم بإنجاب طفل، لكن تانيا (اسم مستعار) لم تتمكن من الحمل. أرادت فعلا مساعدة توماس ووالدته، ولكن بعد تفكير عميق قرر عدم تبني الولد، وعوضا عن ذلك اتصلت بزوجين من أصدقائها وافقا على تربية توماس كابنهما في منزلهما الريفي.
اضطر الزوجان لتسجيل الطفل بسرعة لعدم إثارة الشكوك، لذلك دفعت تانيا مبلغا قدره 250 دولارا رشوة لمسؤول ليغض الطرف عن ذلك، ولتسجيل صديقتها كأم لتوماس.
وتقول تانيا إنها غير نادمة على ما فعلته، كما تصر على أنها تجاوزت طرق التبني الرسمية لصالح توماس: "لم يخطر ببالي أبدا فعل شيء كهذا، لكن التبني القانوني لا ينجح في فنزويلا، وكان هذا الطفل سيعاني كثيرا من المصاعب في دار للأيتام العامة لو تركناه".
محاصرون
أعطي توماس للعائلة الجديدة بعد الحصول على موافقة والدته، ولكن هناك أشخاص كثر يستغلون يأس الفنزويليات.
فأثناء حملها بطفلها الثاني، توفي زوج إيزابيل (اسم مستعار)، الأمر الذي جعلها تفكر في التخلي عن الطفل الذي كانا ينتظرانه. وتقول: "أصبحت وحيدة وخشيت ألا أتمكن من إطعام طفلي".
وبناء على نصيحة أحد معارفها، سافرت إلى جزيرة ترينيداد في منطقة البحر الكاريبي لمقابلة زوجين قيل لها إنهما مهتمان بتبني طفلها، كما قيل لها إنها ستكون صاحبة القرار الأخير، لكنها سرعان ما تعرضت لضغوط من الكولومبية التي كانت تتولى الترتيبات.
وتتذكر قائلة: "قيل لي إن الأمر سيكون قانونيا بالكامل، لكني لم أعط أبدا كلمة تلزمني بمنحي طفلي الرضيع لهما"، ولكن بمجرد وصولي إلى ترينيداد "أدركت أنني حوصرت من قبل شبكة إتجار بالبشر".
وتضيف "كنت مراقبة على نحو دائم"، كما تقول إنه لم يكن يسمح لها بمغادرة المنزل الذي كانت تقيم فيه، كما أنها لم تحصل على تذكرة العودة لفنزويلا التي وعدوها بها.
وبعد أسابيع من بقائها هناك، أنجبت إليزابيل مبكرا في مستشفى ترينيداديان، وقررت الاحتفاظ بالطفل، لكن الكولومبية ضغطت عليها هي ورجل آخر ادعى أنه محام، وشرحت ذلك قائلة: "أخبراني أن الوالدين الجديدين كانا ينتظران في الخارج وأنه كان يتوجب عليّ توقيع بعض المستندات باللغة الإنجليزية التي لم أفهمها وأنه كان عليّ تسليم طفلي".
رفضت إيزابيل في البداية ولكن خلال الأسابيع التالية، زاد خاطفوها من الضغط عليها؛ إذ أخذوا منها طعامها وأدويتها وحفاضات الطفل. وتقول وهي تبكي "في النهاية، كان علي أن أسلم ابني لإنقاذ حياته، وكي أعود إلى فنزويلا للحصول على المساعدة".
وبمساعدة منظمة غير حكومية، بدأت إيزابيل معركة قانونية لاستعادة ابنها المتروك بوصاية السلطات في ترينيداد. وفي الوقت الحالي، يسمح لها فقط برؤيته مرة واحدة في الأسبوع. وتقول إنها لن تستسلم حتى يلتئم شملها معه.
"كورونا" والعقوبات ضربة مزدوجة لاقتصاد إيران.. ما التداعيات؟
أسعار النفط تواصل الارتفاع لليوم الثامن على التوالي