قال راشد
الغنوشي للصحفيين: "حركة
النهضة ليست سجنا".. بهذه الجملة القصيرة جدا علق على استقالة أحد أبنائه الروحيين والمقربين منه،
عبد الحميد الجلاصي، الذي ألقى المنديل مؤخرا، وغادر صفوف الحركة بعد انتماء لها استمر قرابة الأربعين عاما، وتحمل مسؤولية إعادة تنظيم الحركة بعد الثورة. رغم توالي الاستقالات من الحركة، إلا أن هذه تعتبر رابع استقالة من الحجم الثقيل، بعد انسحاب الأمين العام السابق حمادي الجبالي الذي تولى رئاسة الحكومة، والقيادي زبير الشهودي الذي دعا الغنوشي إلى الابتعاد عن السياسة وملازمة بيته، وزياد العذاري، الأمين العام المكلف بفضاء الحكم ووزير التنمية والاستثمار والتعاون الدولي السابق.
الأجواء داخل النهضة ليست بخير، رغم أنها تتصدر المشهد العام بعد حصولها على سبع وزارات في حكومة الفخفاخ، وتوليها رئاسة البرلمان. النهضويون يمرون بحالة قلق شديد، ويخشون من أن استمرار مسلسل الاستقالات ذات الحجم الثقيل قد يؤثر على وحدتهم ويبعد الشباب بالخصوص عن الحركة، وقد ينعكس مباشرة على الحزب ومستقبله. فالشيخ راشد الغنوشي لم يبت حتى الآن في الاستقالة التي تقدم بها منذ أشهر رفيقه في تأسيس الحركة الشيخ عبد الفتاح مورو، رئيس البرلمان السابق بالنيابة ومرشح الحركة في الانتخابات الرئاسة السابقة.
ما يجري داخل الحركة ليس مجرد نزوات فردية، فالمسألة أكبر وأخطر من ذلك بكثير. إنها مؤشرات تتوالى وتتواتر لتؤكد أن الجسم الحركي أصبح مثقلا بالأخطاء الكبيرة التي إن لم تعالج بسرعة ونجاعة فإنها ستفتك به عاجلا أو آجلا.
تأسست الحركة في مطلع السبعينيات، وعمرها الآن يقترب من نصف قرن. وقد بقيت خلال هذه الفترة الطويلة ممسوكة بيد مؤسسها راشد الغنوشي، صانع السياسات داخلها، ومحورها الرئيسي الذي بقي الجميع يدورون حوله في كل الحقب التي مرت بها الحركة. تصعد وجوه، وتتراجع أخرى، ومع كل واحد من هؤلاء قصة وجزء من تاريخ متعرج، مؤلم في كثير من الأحيان، ومضيء في بعض محطاته. واليوم يتهيأ البعض في محاولة منهم تغيير المشهد داخل الحركة وهم يرددون " النهضة أكبر وأبقى من مؤسسها "، لكن المهمة ليست سهلة كما يظنون.
يتعلق أحد محاور الخلاف داخل الحركة بتحديد تاريخ المؤتمر الحادي عشر. كان الاتفاق أن يعقد المؤتمر قبل شهر رمضان، أو في أسوأ الاحتمالات خلال فصل الصيف. وقد أعطي الضوء الأخضر للاستعداد لهذا الحدث الهام، لكن اتضح أن رئيس الحركة ليس مستعدا لتحديد موعد نهائي وواضح يحسم هذا الجدل. وهو مسنود في ذلك بمساعديه الذين يعتقدون بأن تداعيات هذا المؤتمر ستكون سلبية على الحركة، نظرا لانشغالها حاليا بأعباء السلطة، كما أنهم يرددون بأن ابتعاد الشيخ عن الرئاسة بحكم القانون الداخلي الذي لم يعد يسمح له بالبقاء وإعادة الترشح من شأنه أن يعرض الحركة لأزمة هيكلية كبرى. هم يتصورن بأن بقاءه على رأس الحركة شرط ضروري لحمايتها واستمراريتها، لهذا يدعون إلى تغيير القانون الداخلي أو تعديله بشكل يبقي الغنوشي رئيسا لأطول فترة ممكنة.
هذا ما كان يتوقعه من يصفون أنفسهم بالإصلاحيين داخل الحركة، وهو ما أشار إليه الجلاصي في نص استقالته حين اعتبر أن
الديمقراطية صلب مؤسسات الحركة مهددة. وذهب إلى أكثر من ذلك عندما اعتبر أنه "تم استنزاف الرصيد الأخلاقي والقيمي والأركان التأسيسية للحركة، مثل الصدق والإخلاص والتجرد والإيفاء بالتعاقدات، والديمقراطية والانحياز الاجتماعي والتحرر الحضاري والنبض التغييري". وأضاف أن الحركة "لم تمر في تاريخها بمثل حالة المركزة الراهنة في الموارد والمصالح والقرار في الكبير والصغير، وبمثل حالة التهميش للمؤسسات والسفه في إدارة الموارد المادية والبشرية والتجويف للهياكل. والمركزية مورثة لكل الأمراض، ومنها أن تنتشر الشللية والتدخلات العائلية وتصبح الهياكل الموحدة للحركة سبباً في اختلاق وتغذية التصنيفات داخل الجسم".
الخلاف لم يعد يتمحور فقط حول غياب التسيير الديمقراطي، وإنما يتسع الجدل حول أخلاقيات العمل السياسي، ومدى شفافية اتخاذ القرارات المصيرية. وهو ما وضع الحركة أمام تحد غير مسبوق بالنسبة لها؛ يتعلق بأخلقة الممارسة السياسي داخلها. وإذا كان حمادي الجبالي، بما يتمتع به من رصيد في أوساط القواعد، قد لازم الصمت ورفض الكشف عن أسرار عديدة تعتبر داخلية، فإن ما يخشاه الكثير من النهضويين من تواتر الاستقالات أن يجعل الحركة عرضة للانكشاف أمام وسائل الإعلام والخصوم السياسيين، والأهم من ذلك أمام الرأي العام الذي لا يزال جزء منه يثق في الحركة ويصوت لها خلال مختلف المحطات الانتخابية.
حاليا ينقسم النهضويون بين ثلاث مواقف. هناك الطرف المساند بقوة لقيادة الحركة، ويتشبث بموقفها، ويناصرها بشكل مطلق، وذلك بحجة أن الغنوشي هو الضامن الرئيسي لاستمرارية الحزب ووحدته والحفاظ على المكاسب التي تحققت بعد الثورة.
أما الشق الثاني، فهو المتمرد على رئيس الحركة، ويذكره باستمرار أن ساعة التغيير قد حلت، ويتمسك هؤلاء بعقد المؤتمر في موعده باعتبار ذلك الآلية الوحيدة لدمقرطة الحركة.
بين هذا وذاك يقف جزء هام من قواعد الحركة في الوسط، يرفضون أسلوب الاستقالات ويرون فيها سلاحا خطيرا من شأنه أن يعرض النهضة لخطر التفكك، ومن جهة أخرى يعترض هؤلاء على الجناح الداعي إلى التمسك بالاستمرارية، ويعمل على مخالفة الديمقراطية الداخلية وتجاوز القانون. في الآن نفسه يتمسك أصحاب هذا الموقف الثالث بالأهمية الرمزية لمؤسس الحركة، ويعترفون له بالفضل، لكنهم يحاولون إقناعه بالتنحي.. موقف صاغه أحدهم (عبد الحميد العداسي( في تدوينة جاء فيها: "لا بد من إنجاز المؤتمر في وقته، ولا بد من تطبيق القانون حتى نعفي الشيخ من أرذل العمر، وحتى لا نجعله على طريق الأنانيين الفاسدين الأراذل".
الأكيد أن حركة النهضة واقعة في دوامة خطيرة، وهي تقف أمام انعطاف حاد هو منعطف ضريبة الديمقراطية، وهو ما جعل أحد كوادرها الرئيسية سمير ديلو )وزير حقوق الإنسان السابق( يعتبر أن استقالة الجلاصي "ليست بالحدث العادي"، مشيرا إلى أن هذا الأمر "يتطلب وقفة ليست فقط للكلام والتحليل، وإنما لاتخاذ اجراءات منها ما قد يكون ممكنا اليوم وغير ممكن غدا".. وراء هذه الكلمات سيناريوهات مخيفة..