بعد انتشار فيروس كورونا في العديد من الدول، وتصنيفه وباء عالميا من منظمة الصحة العالمية، تزايدت التدابير المتخذة لمكافحة الوباء واحتوائه، ومحاصرة انتشاره بوصفه معديا سريع الانتشار.
ولأن المساجد تشهد في العادة تجمعات واسعة للمسلمين في الصلوات الخمس يوميا، وحضور صلاة الجمعة أسبوعيا، وصلاة التراويح في شهر رمضان، إضافة إلى العبادات الجماعية الأخرى كالعمرة والحج، فقد سارعت هيئات الفتوى في العالم الإسلامي إلى إصدار بيانات لبيان الأحكام الشرعية المتعلقة بذلك.
هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية ذهبت في بيانها إلى أنه "يحرم على المصاب شهود الجمعة والجماعة لقوله عليه الصلاة والسلام (لا يورد ممرض على مصح)، ولقوله عليه الصلاة والسلام (إذا سمعتم الطاعون بأرض فلا تدخلوها، وإذا وقع بأرض وأنتم فيها فلا تخرجوا منها).
اقرأ أيضا: تحذير من التقبيل والعناق بالعراق.. ومشهد تمثيلي لأوقاف الأردن
وجاء في البيان: "من قررت عليه جهة الاختصاص إجراءات العزل، فإن الواجب عليه الالتزام بذلك، وترك شهود صلاة الجماعة والجمعة، ويصلي الصلوات في بيته أو موطن عزله".
ورخصت الهيئة لمن "خشي أن يتضرر أو يضر غيره.. في عدم شهود الجمعة والجماعة لقوله عليه الصلاة والسلام (لا ضرر ولا ضرار) رواه ابن ماجة، وفي كل ما ذكر إذا لم يشهد الجمعة فإنه يصليها ظهرا أربع ركعات".
وفي الإطار ذاته، قالت هيئة الفتوى التابعة لوزارة الأوقاف الكويتية: "إذا انتشر مرض معد بين الناس في بلد معين، وأصبح تجمعهم في المساجد للصلاة سببا للعدوى بهذا المرض، بناء على تقرير السلطات المختصة، سقط عن المسلمين حضور صلاة الجماعة في المساجد في هذا البلد، كما سقط عنهم حضور صلاة الجمعة فيها أيضا، وعليهم صلاة الظهر بدلا من الجمعة..".
ووفقا لأستاذ التفسير وعلوم القرآن في الجامعات الأردنية، الدكتور صلاح الخالدي، فإن "الشريعة الإسلامية بتعاليمها ومقاصدها حثّت المسلمين في حالة انتشار وباء كفيروس الكورونا، على الأخذ بكل الأسباب الممكنة لمواجهته، والحد من انتشاره، بالتقيد بكل الإجراءات التي توصي بها الجهات المعنية والمختصة".
وردا على سؤال "عربي21" حول مدى سقوط العبادات الجماعية بسبب انتشار وباء كورونا، قال الخالدي: "من القواعد المنصوص عليها في الإسلام ما جاء في الحديث "لا ضرر ولا ضرار"، أي نهي المؤمنين عن فعل الضرر وإلحاقه بالآخرين، فمن كان مصابا بمرض وبائي معدٍ، فيجب عليه الابتعاد عن شهود الجمعة والجماعات وسائر العبادات الجماعية حتى يتشافى من مرضه، ولا يكون سببا في إلحاق الضرر بغيره".
اقرأ أيضا: فتوى سعودية بحرمة حضور صلاة الجماعة للمصابين بـ"كورونا"
وأضاف: "ومن المعلوم في الإسلام أن للضرورات أحكامها، والضرورة تُقدر بقدرها، فإذا اقتضت الضرورة عدم شهود الجمعة والجماعات لمن يتسبب حضوره بضرر له أو لغيره نتيجة المخالطة، فعليه تجنب ذلك حتى تنكشف الغمة، ويتعافى العباد من مخاطر الجائحة القاتلة".
وتابع: "والإسلام يوجه المسلمين إلى ضرورة الأخذ بكل الأسباب الممكنة، لمواجهة انتشار الأوبئة المعدية، وعدم التساهل في ذلك، وعدم الركون إلى الكلام العاطفي من قبيل أن التوكل وحده، وحفظ الله للمؤمنين يقيهم من تلك الأوبئة، فمع أهمية التوكل على الله، والثقة به سبحانه، وبحفظه لبيوته وعمارها، إلا أن دين الإسلام أوجب على المسلمين استنفاد كل طاقتهم في الأخذ بالأسباب وعدم التقصير في ذلك".
ولفت الخالدي إلى أنه "مع ضرورة اتباع كل التدابير المادية الممكنة، فثمة سبيل آخر يسلكه أهل الصلاح والدين ألا وهو التضرع إلى الله، واللجوء إليه سبحانه لكشف هذا السوء ورفعه، فهو القائل: (أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلا مَا تَذَكَّرُونَ) فهو سبحانه المرجو عند الشدائد والنوازل العظيمة".
من جهته، رأى أستاذ الفقه الإسلامي وأصوله في دار الحديث الحسنية في المغرب، الدكتور الناجي لمين، أن "مسألة عدم حضور الجماعات والجمع تخضع بشكل عام لميزان المصلحة والمفسدة، وهو راجع إلى تقدير المؤسسات المسؤولة في الدولة، إذ ليس المقصود إبطال القيام بالشعائر، وإنما دفع المفسدة المحتملة بحسب تقدير تلك الجهات".
وقال لـ"عربي21": "إذا ما قدرت المؤسسات المعنية منع التجمعات العامة، في المدارس والجامعات والمسارح والمنتزهات، والمساجد التي عادة ما تكون مكتظة بالناس، فإنها تُطاع في ذلك، أما قصر المنع على المساجد فهو أمر غير منطقي قبل أن يكون غير شرعي".
بدوره، أشار الأكاديمي والباحث الشرعي المصري، الدكتور أكرم كساب، إلى أن العلماء ذكروا "أسبابا لترك صلاة الجماعة، ومنها الخوف، سواء كان الخوف على النفس أو المال أو الأهل، والخوف على النفس والأهل حاصل إذا وجد البلاء (فيروس كورونا)، لذا جاز ترك صلاة الجماعة".
وأضاف في بيان نشره عبر صفحته على "فيسبوك": "ولما كانت الجمعة يشترط لها الجماعة والمسجدية (صلاتها في المسجد) فإذا انتشر الوباء كـ"فيروس كورونا" فواجب تعليق الجمعة لما قد يتحصل من الضرر بالاجتماع الذي هو مظنة نقل العدوى".
اقرأ أيضا: إلغاء صلاة الجمعة بمساجد الكويت كافة بسبب "كورونا"
وتابع: "إذا كانت الشريعة قد أمرت من أكل ما تؤذي الناس رائحته كـ(الثوم والبصل) باعتزال المسجد.. فإن اعتزال المسجد بسبب العدوى واجب قولا واحدا لما فيه من الضرر البالغ".
ورأى أنه "من الأفضل ألا تتخذ خطوات استباقية يتم من خلالها غلق المساجد، أو تعليق الجماعات دون وجود أمر من ذوي التخصص، تؤيده الجهات الرسمية في كل بلد من البلاد، ذلك أن الدعوة إلى غلق المساجد، أو تعليق الجمع قد يدخل الهلع والفزع على الناس، وقد يتهم بذلك العلماء والقائمون على المسجد ببث الرعب بين الخلق، وما يترتب على ذلك من أضرار قد تلحق بأرزاق الناس ومصالحهم".
ودعا كساب "المسلمين في الغرب خصوصا أن لا ينفردوا بقرار يضر بهم أو بالمجتمع الذي يعيشون فيه، فهم كغيرهم من الناس من ذوي الشرائع الأخرى، فإن كانت هناك دعوة لغلق الكنائس والمعابد، وجاء ذلك من السلطات الرسمية وجب عليهم أن يكونوا كغيرهم، بل هم أولى من غيرهم لما في ذلك من تحقيق مصالح للبشر".
العلماء في مواجهة كورونا.. أي مساهمة للدين في تجنب الوباء؟