لدى المصريين مقولة شائعة، تعبر عن الدهشة إزاء غرائب القدر. يقولون ما معناه إنّ ذلك الحدث لو ورد في فيلم لبدا المخرج سخيفا غير واقعي؛ يصفون بذلك غرابة الأحداث العادية أحيانا بحيث تتجاوز الخيال السينمائي.
لعل حياة الكاتب الفلسطيني فيصل حوراني مصداق قوي للمقولة السابقة.
لفيصل مؤلفات متنوعة عن منفاه الطويل خارج فلسطين، وعن تاريخه الحافل في العمل السياسي والنضال الوطني، لكنني أعني هنا تحديدا كتابه "الحنين.. حكاية عودة"، الذي يحكي فيه فيصل حكاية عودته إلى فلسطين بعد أكثر من 46 سنة من إخراجه منها بسبب الاحتلال.
وهو من مواليد قرية "المِسْمِيَّة" القريبة من غزة، سنة 1939.
يقدم الكتاب تأريخا سياسيا مفصلا لمرحلة بالغة الأهمية من تاريخ القضية الفلسطينية، هي مرحلة اتفاق أوسلو ووهم السلام مع الكيان الصهيوني، كما رآه فيصل وكما أتفق معه بصدده، لكنّ تفاصيل ذلك تخرج عن نطاق هذه المادة. أيضا يتضمن الكتاب حكيا دافئا، بلغة أدبية رفيعة، موثّقا تفاصيل تجربة إنسانية استثنائية، تكاد تبزُّ أفلام السينما غرابةً وتفرّدا.
في الكتاب، كما يبدو من عنوانه، يسرد فيصل حكاية عودته إلى فلسطين. لا يتوسع في حكاية أخبار مهجره لأنه رواها مفصلةً في سِفره الجليل "دروب المنفى"، بل يقتصر على حكاية عودته منذ كانت حلما جميلا يأبى أن يلمس حياته، مرورا بتحقق الحلم على نحو واعد بالفرح والدفء في أحضان الأهل والأحباب، وانتهاء بالفقد الفاجع.
لفيصل فصحى رائقة، جليلة، ربما يشعر المتلقي الحديث أن بها نوعا من الاستطراد والوصف الدقيق لأدنى المشاعر والتفصيلات اليومية. ليس ذلك ذنب مؤلفها الذي لم يضع نصب عينيه لغة السوشيال ميديا وطبيعتها الاختزالية، فهو يبدو مستمتعا بوصف أدق التفاصيل.
بعد وصف حياته في المنفى ومدى اشتياقه للعودة إلى فلسطين، يعالج بدقة شديدة، أسباب منعه من العودة، التي هي ذات الأسباب التي منعت عنه راتبه شهورا، وسرعان ما نكتشف ارتباطها بالسلطة الفلسطينية وليدة أوسلو، التي لم تختلف، تقريبا، عن أية سلطة عربية وقتها.
باختصار يتناسب مع سياق المقال، أدّت معارضة فيصل لاتفاق أوسلو إلى أنْ قطعت السلطة الفلسطينية، التي قادها عرفات، راتبه، كما لم تنجز إجراءات زيارته إلى فلسطين، ككثير من أبناء وطنه المنفيين، الذين أتاح اتفاق أوسلو للسلطة الفلسطينية اختيار مَن يمكنه العودة منهم.
هكذا ظل فيصل وأصدقاؤه يسعون لاستصدار إذن دخوله، دون جدوى، حتى تمكن أحد أصدقائه المقربين من مفاتحة ياسر عرفات شخصيا في الأمر، طارحا عليه فكرة المصالحة بينه وبين فيصل، فقد ناضلا طويلا تحت مظلة منظمة التحرير الفلسطينية، ونشأ بينهما من أخوة النضال ما لا يجوز أن ينفصم بسبب اختلاف الرأي.
وقد كان. عاد فيصل إلى غزة. وحكى في كتابه أدقّ تفاصيل رحلته الشاقة، وتعقيدات الكيان الصهيوني وتفننه في امتهان أبناء فلسطين العائدين، بما يعكس نواياه الحقيقية تجاه السلام، بقدر ما يوضح اختلال ميزان القوى بينه وبين السلطة الفلسطينية.
وكما يملك فيصل ناصية العربية العذبة، لا يعدم قدرة فائقة على الحكي، مستحضرا أدق التفاصيل التي توثق الحدث.
وفي غزة، تتسارع وتيرة الأحداث، دون أن تُغفِل لقاءه بأمه، لحظة لحظة، بعد فراق دام 46 سنة. هنا يصبح الكتاب آسرا. طفل يُطرد من وطنه، يتنقل بين المنافي ثم يعود إلى حضن أمه المنتظرة بعد تلك الفترة الهائلة.. أي انفعالات جارفة! وأي شوق وفرح وقهر وحب؛ كلها معا!
يسرد أيضا كيف لقي ذلك الوطن الجديد الذي لم يعرفه، لأنه اختلف تماما بعد فترة طويلة من قهر المحتل وإفساده. لم يعرف معظم الأماكن التي ظل يحمي صورتها في ذاكرته. تدهور كل شيء بفعل الاحتلال. كما يحكي تفاصيل لقائه بعرفات وتصالحهما، رغم تأكيد فيصل على حقه في الكتابة بحرية إذا شاء أن ينقد السلطة الفلسطينية، وهو ما مارسه فورا ليختبر صبر عرفات على اتفاقهما الجديد.
والحق أن هذا مما حبّبني في فيصل. هو كاتب لا يتكرر كثيرا. مؤمن تماما بقدسية الكلمة وقيمة الحرية، لا يتنازل ولا يداهن مهما دفع من ثمن، كما يعي أنه في النهاية كاتب، قبل أن يكون سياسيا، فلا يجوز له أبدا أن يتنازل عن التعبير الصادق عن رؤيته، مهما كانت ناقدة للسلطة القادمة.
حبّبني فيه أيضا تلك الدراما المذهلة التي سطرت حياته وحكاها حكيا إنسانيا آسرا. فبعد زيارة أمه، اضطر للخروج من فلسطين ليدخل وفق إذن آخر للإقامة، بناء على تعليمات الكيان الصهيوني، فخرج إلى عَمان ثم دخل إلى أريحا، ساعيا إلى استصدار الموافقة على دخول غزة، فالمحتل يسعى إلى أقصى تكدير ممكن لأي فلسطيني يزور وطنه.
هنا رحلت أمه. كان في أريحا، لكنه لم يستطع الدخول إلى غزة ليلقي عليها نظرة الوداع ويدفنها. هكذا قضى المحتل.
بعد تدخلات عديدة صدر إذن دخوله فدخل غزة في اليوم التالي، مكتفيا بأخذ عزاء الأم الاستثنائية، التي دُفِنت في اليوم السابق، والتي أمتعنا بنوادرها على امتداد الكتاب.
على أن تلك الطبيعة المدهشة لحياته، تسري فيها دائما، فهو مصاب بإصابات غريبة إثر نضاله خارج الوطن، كما يضطر إلى وضع جهاز يحفز رئتيه على العمل حين ينام. يحكي عن ذلك في كتابه:
"فقدت الإبصار بواحدة من عينيّ أثناء الحرب التي أبعدتني عن مسقط رأسي، وفقدت السمع بواحدة من أذنيّ في حرب أخرى من الحروب التي لحقتني في المنفى، فصرتُ لا أرى محدّثي إن جلس على يساري ولا أسمعه إن جلس على يميني. احتلّ داء لا شفاء له ظهري، واحتلّ داء آخر لا شفاء له صدري".
يعيش فيصل حاليا في فيينا، متابعا الكتابة والحلم بوطن حر.