سلطت صحيفة "الغارديان" البريطانية الضوء على أزمة حزب المحافظين العقائدية في مواجهة أزمة فيروس كورونا المستجد.
وقالت الصحيفة في مقال رأي للكاتب أندرو راسلي، ترجمته "عربي21" إن حزب المحافظين وعلى رأسه رئيس الوزراء بوريس جونسون، وجد نفسه في خضم إعلان قرارات مناقضة تماما لعقيدتهم السياسية، وذلك لمواجهة الأزمة غير المسبوقة منذ الحرب العالمية الثانية.
وفيما يلي نص المقال:
لا يحترم فيروس كورونا الحدود الوطنية ولا المعتقدات السياسية ولا
التفكير التقليدي. بينما تسعى الحكومات جاهدة لاحتواء الوباء وتخفيف تداعياته على
الاقتصاد والمجتمع، ما كان من قبل غير وارد التفكير فيه تحول فجأة إلى أمر لا
استغناء عنه، ومقترحات السياسة التي كانت تعتبر حتى الأمس ضرباً من الجنون يجري
الآن إعادة تعريفها كرد عقلاني وحيد للتعامل مع هذه الحالة الطارئة، والمواقف التي
كان يعتقد بأنها نهائية ولم يمكن تغييرها يتم الآن إلقاؤها في نار تلتهم المعتقدات
التقليدية التي ألقي بها في سلة المهملات.
وهنا يكمن تحد محفز بشكل خاص للسياسيين من اليمين، إنهم أولئك الذين
كانوا ولعقود يعتنقون فكر أن الحكومة الجيدة هي فقط الحكومة الصغيرة وأنه لا توجد
مشكلة على الإطلاق يعجز السوق عن حلها. إن الفلسفة التي تكمن جذورها في الاعتقاد
بأن الفردية والتنافس هما ينابيع المجتمعات الصحية والمنتجة ينكشف عوارها عندما
تواجه بأزمة لا يمكن الصمود فيها وحلها إلا بإعادة اكتشاف فضيلة التضامن والعمل
الجماعي.
بإمكانك أن ترى بعض التوترات التي يرسمها ذلك على وجه بوريس جونسون
المتعب والمجهد كلما ظهر أمام ما بات الآن مؤتمراً صحفياً يومياً. هذا التحرري
فطرياً، الذي كان يكسب قوت يومه من خلال نشر أعمدة في الصحف يسخر عبرها من
"دولة الخدمة" بات مضطراً لأن يفرض ضوابط اجتماعية من النوع الذي لم
يشاهد منذ الحرب العالمية الثانية، بل إن بعض القيود تعود إلى ما قبل تلك الحقبة
من المحنة الوطنية. فهم لم يضطروا إلى غلق الحانات أثناء الغارات الجوية. ها هو
الآن يجد نفسه، ولا شك أنه يكره أن يجد نفسه في ذلك الموقف، رئيس الوزراء المسؤول
عن "مصادرة الحق القديم وغير القابل للتصرف لكل رجل إنجليزي ولد حراً في أن
يذهب إلى الحانة."
وإذ تغلق صنابير البيرة، يتوجه الإنفاق نحو سبيل لم يُشهد من قبل. وها
هو زعيم المحافظين، الذي فاز مؤخراً في الانتخابات جزئياً بسبب هجومه على جيريمي
كوربين متهماً إياه بأنه آخر المنفقين الكبار، يتأهب ليتصدر تصعيداً دراماتيكياً
في الإنفاق الحكومي لم يحصل منذ أربعينيات القرن الماضي في محاولة لإنقاذ الاقتصاد
من ركود يوشك أن يثب عليه فيهلكه.
بالنسبة للحكومة والناخبين على حد سواء، تعتبر هذه الأزمة حصة تعليمية
لصالح الدفاع عن الدولة الفاعلة والقادرة على التصرف. فالحكومة وحدها هي التي
تستطيع اتخاذ الإجراءات الاستثنائية المطلوبة لتقييد النشاط البشري على أمل أن يحول
ذلك دون انتشار العدوى. والحكومة فقط لديها القدرة على الأداء بفعالية لتوفير
الملاذ الأخير لعدد ضخم من الشركات التي تواجه خطر الانقراض ما لم تحصل على دعم
الدولة. والحكومة وحدها هي التي تستطيع توفير شبكة أمان للعاملين الذين يحرمون من
كسب قوت يومهم لأنهم مرضى أو لأنهم يحاولون فعل ما هو صواب من حيث عزل أنفسهم أو
لأن الجهة التي توظفهم باتت في ورطة.
أفكار مثل: الرعاية شيء سيئ، وعليكم موازنة الدفاتر، وليست مهمة
الحكومة إنقاذ الشركات التي تفشل، جميع هذه المعتقدات التي طالما كانت تعبد داخل
كنائس عقيدة المحافظين يتم الآن التضحية بها بسبب شدة الإلحاح الطارئ للحظة
الآنية.
اقرأ أيضا: جونسون يحذر البريطانيين من السيناريو الإيطالي لكورونا
عندما تتحرك الأحداث بهذه السرعة غير العادية يسهل على المرء أن يفقد
القدرة على تقدير حجم التحول الحاصل. كانت أول ميزانية يقدمها ريشي سوناك قبل عشرة
أيام فقط، ولكنها الآن تبدو كما لو كانت آثاراً قديمة من حقبة أخرى. عندما أعلن في
البداية تخصيص 12 مليار جنيه إسترليني للتعامل مع الفيروس بدا كما لو أن غيبوبة
جماعية اجتاحت أعضاء البرلمان من حزب المحافظين. ما وصفه حينها بأنه تدخل
"غير مسبوق" يبدو الآن مجرد تغيير ضئيل. فقط بعد ستة أيام عاد ليعلن عن
حزمة إعفاءات ضريبية ومنح وقروض للمؤسسات التجارية بما قيمته 350 مليار جنيه، وهذا
يعادل 30 ضعفاً تقريباً لما كان قد اقترحه سابقاً. ثم مضى وزير المالية ليعلن بأن
ذلك إنما يثبت بأن الحكومة ستفعل كل ما هو مطلوب. ولكن لم يلبث طويلاً حتى قيل له
إن ما هو مطلوب أكبر بكثير إذا ما أردنا أن نتغلب على هذه الأزمة. حينها، لم يصدر
الصخب فقط عن سياسيي المعارضة والنقابات العمالية والجمعيات الخيرية.
إحدى اللوحات الفنية الآسرة خلال الأيام القليلة الماضية كانت
لبيرنارد جينكين وآخرين ممن يمثلون اليمين الثاتشري حينما ضموا أصواتهم إلى
المحافظين الأكثر توسطاً مثل غريغ كلارك، وزير الأعمال السابق، للمطالبة بمساعدة
أرحب بكثير. تحت هذا الضغط، خرج السيد سوناك بما يمكن فعلياً أن يعتبر ميزانيته
الطارئة الثالثة في أقل من أسبوعين، عندما أعلن عن مخصصات رعاية أعلى وعن برنامج
هائل لدعم رواتب العمال الذين من الممكن أن يفقدوا وظائفهم. علق أحدهم قائلاً:
"ليس هذا وقت الأيديولوجيا ولا الأفكار القديمة." وهذا الرجل كان
معروفاً بأنه من صقور المال، وها هو الآن يشحن حمولة أخرى من معتقدات المحافظين
المقدسة ليلقي بها في النار التي تلتهم عقائدهم التقليدية.
خرج على الناس بملامح وجه واثق رسمها عمداً ليخفي خوفاً عميقاً داخل
الحكومة حول عواقب الإخفاق في اتخاذ خطوة غير عادية تتمثل في تحميل الدولة
المسؤولية عن جل فاتورة الوظائف في المنظومة الاقتصادية. وإلا فالبديل هو أن ترى
ارتفاعاً سريعاً وضخماً في معدلات البطالة مما سينقض ظهر نظام الرعاية الاجتماعية
ويهدد باندلاع شغب مدني خطير. لدى إجباره على الاختيار بين عقيدة المحافظين وأعمال
الشغب بحثاً عن الطعام، توجه السيد سوناك نحو الخيار الصائب.
ثمة أشياء مشابهة تحدث حول العالم إذ تنهمك الحكومات فيما تبذله من
جهود للحيلولة دون أن يتحول كساد لا مفر منه إلى ركود حاد، لدرجة أن دونالد ترامب
يتحدث عن إرسال واشنطن وبشكل مباشر شيكاً لكل مواطن أمريكي.
تختلف هذه الأزمة الطارئة من عدة أوجه أساسية عن الانهيار الكبير الذي
حصل في عام 2008، إلا أنه يمكن استخلاص بعض الدروس المفيدة من الأزمة العالمية
السابقة. أما أولها فهو أنه يتوجب على الحكومات والمصارف المركزية أن تتحرك بسرعة
وبحزم وبمستوى يعطي الثقة للأسواق وللعائلات وللمؤسسات التجارية بأن الدولة تحمي
ظهورهم وأنه من الممكن للناس أن تخطط للمستقبل عندما تنتهي هذه الأزمة.
ما من شك في أن الأدوات التي استخدمت أثناء الأزمة المالية مثل تحديد معدلات فائدة قريبة من الصفر، واعتماد التيسير الكمي والإنقاذ البنكي، ساهمت في تجنب تكرار تجربة الكساد العظيم الذي وقع في ثلاثينيات القرن الماضي، ولكن الناس بدأت ببطء فقط تقدر العواقب الاجتماعية السلبية التي وسعت الهوة بين من يملكون الثروة ومن لا يملكونها وأدت إلى نفور واسع وعميق من قبل الجمهور.
ومما غذى السخط في أوساط الناس الأقل
ثراء والذين شعروا بقبضة التقشف تشدد الخناق على رقابهم رؤيتهم لرجال المال وهم
يخرجون دونما خجل أو وجل ودون أن يمسهم سوء من ركام ما جنته أيديهم ثم يمضون قدماً
ليثروا أنفسهم من جديد. في الأسبوع الماضي، قال السيد جونسون: "نتذكر جميعاً
ما حدث في عام 2008"، في إيماءة منه إلى النقاشات التي جرت داخل حكومته حول
مخاطر رد الفعل الشعبي الهائل إذا ما تشكل الانطباع لدى الناس بأن الحكومة لا هم
لها سوى العناية بالمؤسسات التجارية الكبرى. ولذلك وقف المرة تلو الأخرى ليقول
للشركات إن الحكومة تقف معهم حتى يتمكنوا من الوقوف مع موظفيهم.
هناك من النقاد من يقول إن الكميات الضخمة من الإنفاق الحكومي التي
تُطلق على هذه الأزمة أشبه ما تكون ببندقية الخرطوش، وأن المال سينتهي إلى أيدي
شركات تدار بشكل سيئ أو تتصرف بشكل سيئ، وأن المال سيذهب إلى بعض من لا يحتاجونه،
وأن المال سيهدر. ولكل هؤلاء نقول: فليكن. لا يوجد وقت أمام الحكومة لتطوير مخططات
منمقة بآليات تنفيذية معقدة، وإنما هناك حاجة ماسة إلى جعل المساعدة المالية
متوفرة بأبسط وأسرع ما يمكن. هذه الأزمة لا تتطلب بنقدية القناص وإنما البازوكا.
والأمل – ولا يمكن إلا أن يكون أملاً في هذه المرحلة – أن الهبوط
الحاد في الاقتصاد العالمي سيتبعه عودة قوية عندما ترفع القيود ويعود الملايين إلى
وظائفهم ليعملوا وينفقوا من جديد. ولكن هذا الأمر لن يتحقق إلا إذا كانت المؤسسات
والأعمال التجارية ماتزال واقفة على سوقها.
ليس بإمكان الوزراء والمسؤولين القول كم ستكلف كل الإجراءات الطارئة
لأنه ليس بإمكانهم أن يعلموا. بإمكاننا فقط أن نقول إن المبالغ ستكون ضخمة. في
العادة يكون لدى روبرت تشوت، مدير مكتب المسؤولية عن الموازنة، توبيخ شديد يوجهه لحكومة
لديها الاستعداد للسماح للعجز بأن يتصدع بطريقة مذهلة، ولكنه الآن يقول:
"عندما يكون الحريق كبيراً فما عليك إلا أن ترش الماء وأن تدع القلق لما
بعد."
كل ما يفعله الصارمون مالياً داخل التيار اليميني الآن هو تقبل الأمر
على أساس أنه لا يوجد له من بديل. وأما التحرريون أنصار انكماش الدولة والكارهون
للرعاية، فيتأهبون للتعايش مع إجراءات يمقتونها في الظروف العادية، ويعتبرونها
إكراهات مؤقتة سوف يتم رفعها يوما ما. ويعتقدون أنه بمجرد أن تتم السيطرة على
الفيروس إما من خلال إنتاج لقاح أو من خلال غير ذلك من الإجراءات، فيمكن حينها
للسياسة أن تعود إلى ممارسة دورها كالمعتاد.
أشك كثيراً في ذلك. فرغم أنه من المبكر جداً التخمين بثقة حول الطرق
التي سيتم من خلالها على المدى البعيد إعادة تشكيل المجتمع، إلا أن الذي يجري قلب
رأساً على عقب كثيراً من الفرضيات التي حكمت السياسة هنا وفي الأماكن الأخرى
لعقود. يصعب التصديق بأن حدثاً لا يشهده القرن إلا مرة واحدة لن تكون له تداعيات لا تحدث إلا مرة واحدة في القرن.
للاطلاع على نص المقال اضغط (هنا)
بسبب كورونا.. طوابير طويلة أمام متاجر الأسلحة بأمريكا
نيوزويك: لماذا لم ينتشر كورونا بروسيا رغم جوارها للصين؟
محفّظة بغزة تتجاوز حصار كورونا بتحفيظ القرآن رقميا (شاهد)