مجموعة
الدول الصناعية الكبرى، أو مجموعة الثماني، وهي الولايات المتحدة الأمريكية
وبريطانيا وفرنسا وألمانيا واليابان وإيطاليا وروسيا وكندا، تترنح الآن أمام هجمة
كورونا الجديد واسمه العلمي "كوفيد-19". أما
الصين التي لم تعتبر دولة
صناعية كبرى فكانت أول من غزاها كورونا، وكانت أول من واجهه بجدارة، وقد أصبحت
الآن على درب التعافي منه.
لا يحق
لأية دولة كبرى أن تعتبر فيروس كورونا وانتشاره السريع والواسع مفاجأة لها، ومن ثم
لا يحق لها أن تنكشف أمامه بكل ما أظهرته أمريكا وأوروبا من ضعف في بنيتهما الصحية
التحتية. فلا أسباب الوقاية وأدواتها متوفرة كما يجب، ولا المستشفيات معدة كما
يجب، فحتى الكمامات والسوائل المطهرة (كالسبيرتو) لم تكن متوفرة في الأسواق أو
المخازن، فيما راحت الطلبات تنهال عليها بعشرات الملايين.
كيف يحق
لدولة كبرى وصلت أوجاً في تقدمها وثرواتها، ومستواها الصناعي والإنتاجي والطبي
والعلمي والتقني، ألاّ تتوقع مفاجأة هذا الزائر الغريب وبدون سابق موعد؟
لماذا؟
لأن ثمة تاريخاً عالمياً يُدرّس في المدارس الثانوية عن غزو الأوبئة للإمبراطوريات
القديمة وما حلّ بها بسببه من كوارث.
على أن
الأهم من التعلم من عِبَر التاريخ القديم هي غزوات الإنفلونزا الفيروسية في القرن
العشرين، وحتى في العقدين الأولين من القرن الواحد والعشرين. فهنالك الإنفلونزا
الإسبانية 1918-1920، التي أصابت 500 مليون، وذهبت بحياة خمسين مليوناً، ثم بعدها
الإنفلونزا الآسيوية 1957، وقد اختفت لتظهر من خلال إنفلونزا هونغ كونغ في 1968-1970،
التي انتشرت عالمياً وضحاياها بلغوا مليونا، من بينهم 100 ألف ماتوا في أمريكا.
ولكي لا
ينسى قادة العشريتين الأولى والثانية من القرن الحالي أن وباء الإنفلونزا الفيروسي
المسمى "المتلازمة التنفسية الحادة"، مختبئ وراء الباب، فقد انتشر عام
2003، واعتبر واحدا من فيروسات كورونا (تركيبتها ذات قرابة وثيقة بتركيبة كورونا
الحالية). وكان مصدرها مقاطعة غواندونغ الصينية، وانتشرت في 26 بلداً وقتلت 774 شخصا.
ثم لحقت به إنفلونزا الخنازير 2009-2010، وأصابت 60 مليوناً والموتى حوالي 800
ألف. ثم لا ننسى إنفلونزا الإيبولا 2014-2016، وقد انحصرت في ثلاث دول أفريقية:
غينيا وليبيريا وسيراليون.
بعد هذا
كله، كيف يحق لدولة صناعية وغنية ومتقدمة علمياً والأهم متنمرة عسكرياً وسياسياً
واقتصادياً، مثل أمريكا، ألّا تتوقع كورونا هذا، وتكون مستعدة لاستقباله بما
تحتاجه من الوقاية والعناية الصحية والمستشفيات المعدة للأوبئة؟ والأنكى أن تتقدم
عليها الصين في المواجهة السريعة، وبسرعة إعداد المستشفيات، وبسرعة السيطرة عليه.
والأهم الانتقال إلى مد يد العون لكل دولة مبتلاة في العالم، فيما أمريكا لا تفكر
إلاّ بنفسها، وتواصل حصارها على إيران حتى المتعلق بالمتطلبات الطبية والوقائية،
لمواجهة كورونا. حقاً إنها جريمة في نظر القانون الدولي.
وبالمناسبة،
ألا تنتبهي يا أمريكا إلى مغزى هذا التفوق عليك عالمياً؟
والسؤال:
إذا كان غزو الأوبئة للعالم، ولحياة ملايين البشر، مسألة متوقعة، بل تكاد تكون
دورية، فما تفسير هذا النقص في كل ما له علاقة بالعناية الصحية، وبالوقاية وبالمستشفيات
وبالتعبئة وبالتعاون العالمي، خصوصاً بالنسبة إلى كل من أمريكا وأوروبا "قائدتيْ
التنوير"؟ وما الذي جعل هذا البند عندهما يهبط إلى مستوى الأقل أهمية، مقارنة
حتى بصناعة الأدوية والعمليات الجراحية وتطوير البحوث العلمية؟ فكيف يُهمل مبدأ
"درهم وقاية أفضل من قنطار علاج" لحساب مبدأ "قنطار علاج" فقط
من أجل قنطار دولارات.
هذا
التناقض نابع من نظام اقتصادي- سياسي- عسكري يروّج للسياسة الربحية والعقلية
الاحتكارية التي يتضمنها "قنطار علاج" في مصلحة الشركات متعددة الجنسية،
ولفائدة فئات قليلة من المجتمع على حساب آلاف الملايين من كادحي العالم وفقرائه
ومستضعفيه. فمرابح الأدوية والعمليات وحتى الآلات العبثية لإطالة أمد الموت
السريري، أهم من الطب الوقائي وما تقتضيه العناية الصحية في مكافحة الأوبئة.
هنا لا بد
من إدانة النظام الرأسمالي الغربي النيوليبرالي العولمي القائم على النهب والربحية
القصوى، وليس على توفير حياة صحية أفضل لغالبية البشر، ولا سيما العقلية والسياسات
التي تؤدي إلى الاختلال المريع في موازنة الولايات المتحدة الأمريكية بين ما هو
مخصص للحرب والأجهزة الأمنية، وما هو مخصص للصحة العامة والخدمات الاجتماعية
ومكافحة الفقر محلياً وعالمياً.
ففي
الموازنة التي تقدم بها
دونالد ترامب للعام 2020 (عام كورونا) طالب بزيادة موازنة
الدفاع لتصل ثمانية أضعاف أية وزارة أخرى، ولا سيما وزارة
الصحة العامة والخدمات.
وحتى هذه "الفقيرة" طلب تخفيضها بـ12 في المئة عن العام السابق، بما في
ذلك تخفيض خمسة مليارات من مخصصات معاهد الصحة الوطنية للأبحاث الطبية، وفي
المقابل طلب زيادة موازنة وزارة الدفاع التي وصلت رقماً قياسياً: 739 مليار دولار،
ثم بعد شهرين تقدم بطلب زيادتها بأربعين مليار دولار أخرى لما أسماه تشكيل
"قوة عسكرية فضائية".
فالنقص
الهائل الذي كشفه كورونا "كوفيد-19" في الولايات المتحدة لم يكن بسبب
المفاجأة، أو عدم التوقع، بقدوم هذا العدو الشرس، وإنما بسبب أولويات أخرى، وعقلية
سائدة معممة على كل من يأخذ بالنظام النيوليبرالي على الطريقة الأمريكية. الأولوية
للحرب والربح الأقصى والنهب الجشع، أما حياة الغالبية الساحقة من بني الإنسان،
وحتى داخل البلد نفسه، فلا تعني شيئاً، هذا إذا لم يفتح ملف العقلية أو السياسة
التي ترى هذه الأغلبية تحمل فائضاً بشرياً يجب التخلص منه. فأهلاً وسهلاً بكورونا
إذا أمكن الحفاظ على تلك الأولوية في الآن نفسه.
وبالمناسبة،
ثمة تقرير سري أمريكي أعد بإشراف هنري كيسنجر عام 1974، تناول إشكالية النمو
السكاني في العالم، واعتبره معوّقاً لتنمية البلد المعني، وضد مصالح الولايات
المتحدة الأمريكية. وقد علّم على ثلاث عشرة دولة عالم ثالثية، في ذلك الوقت، وهي مصر
والهند وباكستان وبنغلادش وإندونيسيا وتايلاند والفلبين وتركيا ونيجيريا وإثيوبيا
والمكسيك وكولومبيا والبرازيل، كمرشحين أُول لتحديد النسل. وراح الإعلام الأمريكي
يتحدث عن "القنبلة السكانية" (يا للهول قنبلة؟ أهكذا يُعامَل البشر؟).
ومما سرب عن جزء أكثر سرية في التقرير، تحدث عن ضرورة تمديد آجال الحروب بالوكالة،
وعن ضرورة إبطاء وصول النجدة في حالة الكوارث الطبيعية أطول ما يمكن (من أجل
المزيد من الضحايا البشرية)، وهو ما ينطبق على الأوبئة مع إبقاء الملايين من فقراء
العالم في حالة من الفقر وتلوث المياه والبيئة من حولهم.
هذا وذهب
البعض في الماضي، ويذهب ورثة لهم، في الحاضر، إلى الترويج لنظرية "البقاء
للأصلح" مستعينين بتشارلز داروين، أو هنري سبنسر، وتوماس مالتوس، وإلاّ كيف
برزت اليوم في إيطاليا وثيقة "سياراتَى" التي حرمت المصاب بكورونا ممن
فوق 65 عاماً من أجهزة التنفس للحالات الخطرة بحجة محدوديتها؟ المهم هنا عمليات
الانتقاء بناء على نظرية "البقاء للأصلح". وتدخل ضمن الجوقة نفسها
سياسةبوريس جونسون رئيس حكومة بريطانيا، والتي اسماها "مناعة القطيع"، وإن
اضطر إلى التراجع عنها.
إن قراءة
ما أخذ يكشفه كورونا من عيوب في أمريكا وأوروبا يجب ألاّ نمر بها مر الكرام، أو أن
يذهب تفسير إلى ما أحدثه كورونا من مفاجأة القدوم غير المتوقع، أو وضع عيوب الجميع
في سلة واحدة، ومن ثم عدم الانتباه إلى مصدر تلك العيوب وما غطت عليه
"كورونا" من تدهور في الوضع الاقتصادي العالمي، من ركود وتضخم وانهيار
للبورصات وتعطل للحياة الاقتصادية، واعتبارها هي المسبب له. فكورونا كاشف لعيوب
القيادات والأنظمة والدول، ولكنه ليس السبب والمنتِج، كما أنه ليس السبب في تدهور
الوضع الاقتصادي أو في ما انتشر من فساد واستغلال لكورونا.
فالمصدر
هو النظام وما يوّلده من عقلية لخدمته وتغطيته والإقناع به وما يعممه عالمياً.
وبالمناسبة، حتى الفساد الذي تعاني منه بلدان العالم الثالث، فإن بعضاً منه سببه
الداخل والذاتي، ولكن رأس الحية هو النظام الرأسمالي النيوليبرالي العولمي الذي
تذهب إلى عواصمه الكبرى كل مليارات الفساد كملجأ ضامن وحام، وإلاّ كيف سيكون حال
الفساد المحلي إن كانت عشرات ومئات الملايين والمليارات
ستبقى في بلده، ويصبح ممنوعاً عليها أن تجد ملجأً لها في
أوروبا وأمريكا؟
هذا الوعي
هو الذي يفترض أن يسود مع التجربة التي يخوضها العالم مع كورونا، ويصبح جزءاً من
نشاط الشباب لتغيير العالم. فكل ما هو سلبي ومدعاة للثورة له ظاهر وله باطن ومساند
أو مولد عالمي. فالوعي المحلي – القُطري ناقص وغافل.