كورونا إذ يكشف عوراتنا

كورونا؛ الفيروس ذو الكينونة المجهرية وصاحب الأبعاد النانو مترية، يهز معاقل حكومات العالم أجمع ويشل الاقتصاد، بل يجعله في أسوأ أحواله منذ الأزمة المالية العالمية، وتتضاءل أمامه أعتى النظم العالمية الصحية، ويغير أنماط الحياة الاجتماعية ونظم التعلم والتعليم، ويوقف التعبد الجماعي بجميع خلفياته العقدية وجميع الأنشطة الترفيهية ، ما دامت تتطلب لقاء الإنسان بأخيه الإنسان وجها لوجه.

ليس هذا فحسب، بل أثبت كورونا أنك أيها الإنسان مهما تقدمت وطورت من حضارات وتقنيات، وطغيت أو تواضعت، ومهما علوت بعلمك ومركزك اجتماعيا واقتصاديا وسياسيا، ومهما كانت عقيدتك الدينية ؛ فلا فرق بينك وبين أخيك الإنسان إلا في أمر واحد فقط أوضحه كتاب الله للعالمين أجمع في سورة الأخلاق بقوله "إن أكرمكم عند الله أتقاكم". 

ما يقوله لك كورونا أيها الإنسان؛ حاكما ومحكوما؛ ذكرا وأنثى، هو: هل قمت بما عليك من أمانة لنفسك ولأخيك الإنسان ؟ هل وعيت وتدبرت معنى أن تكون من المتقين في كل شؤون حياتك، وليس فقط في محرابك وحسب؟

في كل لحظة يكشف لنا كورونا عوراتنا ؛ دولا وحكومات وحكاما ومحكومين,

لقد كشف لنا كورونا عورات حكومات دول كنا نحسبها متقدمة في التخطيط الحصيف والاستخبارات العلمية التي لا تقل أهمية بل ضرورة عن الاستخبارات الأمنية. فهل يعقل مثلا، أن ترى في هذا الوقت فشل الحكومة البريطانية في تهيئة نظام الرعاية الصحية الوطنية بأبسط حقوق الحماية من العدوى للعاملين في الخطوط الأولى من ممرضين وأطباء وصيادلة وإداريين وغيرهم؟!

 

نشير هنا إلى أننا فقدنا خلال أيام بسيطة مضت عددا من خيار العاملين في القطاع الصحي البريطاني، وتشاء الأقدار أن تكون في الطليعة ممرضة عظيمة مسلمة، وهي أم لطفلين ومن أصول أسيوية، مع ثلاثة أطباء؛ أحدهم عراقي خدم لأكثر من سبعة وأربعين عاما، وجراحان سودانيان عظيمان، ندعو الله أن يتقبلهم في الشهداء.

هل يعقل أن ترى قوة عظمى مثل الولايات المتحدة الأمريكية في غرور رئيسها والعدوى تفتك بولايات مركزية ولا يصدر أمرا بحجر ولا إغلاق، ويتحدث عن أجهزة تنفس اصطناعي أرسلت وخزنت في مستودعات إحدى الولايات، وقادتها لا يعرفون عنها. أي غطرسة واستهتار بحياة بني الإنسان؟!

 

ثم ماذا حين يتورط رئيس تلك القوة العظمى بالعنصرية حين يصف الفيروس بـ"الفيروس الصيني" ، في الوقت الذي لم تتعلم فيه تلك القوة العظمى وكثير من الدول الغربية ما أبدعته الصين في التصدي لفيروس كورونا ، وما تعلمته من بعدها وزادت في إبداعه كوريا الجنوبيه (الدولة التي كان نصيب الفرد فيها من الناتج القومي يساوي 130 دولارا مقارنة بـ200 دولار في مصر في عام 1960؟!

 

ويتكشف لنا قصور التمويل للبحوث العلمية الطبية البيولوجية والدوائية في الغرب مع تقدم النمور الآسيوية، مع تقهقر مراكز الأبحاث العربية والإسلامية في مجال ابتكار أي شيء يذكر في هذه الجائحة، وفي انتظار ما يتفضل به علينا الغرب والنمور الآسيوية.

 

وهنا يكشف لنا كورونا مدى فداحة الهوة في فاعلية جامعتنا ومراكز أبحاثها في العمل البحثي الذي له أثر على حياة الإنسانية، لا في مجموعة أبحاث تنشر هنا وهناك لترقيات وإحصاءات للاستهلاك الإعلامي. هل نحن أمام فقاعة صابون قام كورونا بتسوية سطحها أرضا ليتبين الزبد مما ينفع الناس في البحث العلمي research with impact؟!

ويكشف لنا كورونا قصور منظمة الصحة العالمية في التخطيط والتمويل للجوائح وتأخرها في العمل مع الصين منذ وقت ظهور فيروس سارز وحشد الدول الأعضاء ومراكز الأبحاث والشركات منذ سنوات مضت؛ في نفس الوقت الذي كانت فيه الصين تستفيد من تجهيزات وبنى تحتية وأدوات حماية للعاملين في القطاع الصحي عمدت إليها في وباء فيروس سارز.

 

ومن بين إرشادات منظمة الصحة العالمية للدول: "افحص افحص افحص" للدول، فهناك دول تريد تفعيل ذلك، ولكن لا جاهزية لوفرة أطقم فحص كورونا حتى لفحص الطواقم الطبية في الخطوط الأمامية. 

ويتكشف لنا عمق نتيجة المبالغة في الإنفاق على الحروب والأسلحة بشتى أنواعها، فتجد الإنسان يهلك أخيه الإنسان أضعافا مضاعفة، مقارنة بالصرف على مواجهة جائحة كورونا التي تمثلت في عالمية منظرها بينما حياة أناس شردوا وقتلوا بالآلاف لم يرها العالم. وقد جعل كورونا البعض يقول: لو أنفقنا على عالم بيولوجي مثلما يُدفع للاعب كرة لربما تغيرت كثير من المشاهد.

 

وتتداعى مشاهد كشف كورونا للعورات في أدق نواحي حياتنا

فالمشاهد في النواحي التعليمية والروحانية والاجتماعية لها جوانب تسترعي النظر والنقد والتفكر والتدبر؛ فأول ما شاهدناه من إجراءات في كثير من بلادنا العربية فيما يخص مواجهة جائحة كورونا؛ تمثل في إيقاف التعليم الوجاهي في المدارس والجامعات وإغلاق دور العبادة، في نفس الوقت الذي تُركت فيه المنافذ الجوية والبرية والبحرية مفتوحة للسياحة والترفيه والمطاعم والمقاهي التي قد بعضها الأرجيلة، حتى أن دولة مثل بريطانيا تأخرت في ذلك كثيرا جدا ودولة عربية بحجم مصر تزاحمت قطاراتها لتكون الأنفاس متبادلة بين أصحابها، قبل أن يتم وقف ذلك لاحقا.

نحن بالتأكيد مع الحيطة والحذر في الإغلاق لدور العبادة ومراكز التعلم الوجاهي من مدارس وجامعات، ولكن الذي شاهدناه هو سهولة وأحادية الطريقة في التخطيط والتطبيق مع سهولة وضع اليد بدءا على دور العبادة ونحوها، وعدم الجاهزية تخطيطا وتنفيذا لمنابع العدوى الأساسية، وليس أن تكون العملية بروتوكولات شكلية متوارثة.

وقد كشف لنا كورونا أيضا فقرا وجوديا لعمل منظومة علماء الشريعة عندنا، وافتقارها إلى طرق إبداعية (وليس الابتداع في شؤون العقيدة) في إيصال رسالتهم في خضم جائحة كورونا للحكام والحكومات والأفراد بطريقة تتناسب مع جلل الخطب في عصر الثورة المعلوماتية وما يحيق بحياة البشرية في مختلف أصقاع الأرض، من احتلال وتشريد وتعذيب وفقدان لكرامة الإنسان. هذا من جانب، ومن جانب أخ طرح ضوابط لاستخدام الشبكة العنكبوتية بطريقة لا تخل بمتطلبات أداء الشعائر الواجبة منها لصلاة الجمعة عبر تطبيقات الشبكة مثل سكايب وغيرها  بطريقة ممنهجة تتناسب مع المتطلبات الشرعية لأداء تلك الشعائر. 

ألا يمكن لوزارات الأوقاف والمراكز الإسلامية خصوصا في غير الدول الإسلامية أن تدير وتنظم تلك الشعائر بشكل مجموعات وفق ضوابط شرعية؟ لماذا لا يكون ذلك جزءا من فقه الضرورة في جائحة كهذه، فربما ننقطع فيها شهورا عن شعائرنا الجماعية؟ هنا يتكشف لنا مجددا الفقر الوجودي لعمل منظومة علماء الشريعة عندنا في الكوارث والجوائح. وربما يأتيك من يقول إن المسلمين فقدوا صلاة الجمعة والجماعة شهورا في بغداد حين غزاها المغول واستشرى فيها الطاعون، ونقول هنا: هل كانت تقنيات المعلوماتية والشبكة العنكبوتية متوفرة آنذاك؟ إنه تعطيل فلريضة الاجتهاد في فهم وتفعيل تقنيات المعلوماتية في وقت لم تصدر فتوى في فرضية العين في البحوث المعلوماتية والريادة المؤثرة فيها impactful research.

وأما النظم العلمية والتعليمية فحدث ولا حرج.

جامعات صرفت من الجهد والوقت على نظم التعلم الإلكتروني منذ أكثر من عقد من الزما ، وبقي نظام التعليم الإلكتروني وكأنه أداة تخزين واسترجاع وامتحانات ؛ وهذا ليس في صلب الأهداف المناطة من التعلم والتعليم. ولم نشهد في الغالب تفعيل الأساليب التربوية في ذلك ((pedagogy؛ فالتعلم والتعليم الإلكتروني يحتاجان إلى تفعيل أصول وطرائق في التعلم والتعليم. و قد شاهدنا أمثلة لإتاحة الفرصة للتواصل مع الطلبة بأي أدوات خارج نظام التعلم والتعليم الإلكتروني، وهذا أمر خطير جدا حيث يمكن للطلبة التحدث مع الأساتذة بأدوات خاصة مثل واتساب وغيرها، وهذا غير مقبول من ناحية خصوصية الطلبة عدا أن ما يتم التواصل عبره لا يتم بطريقة علمية تربوية.

والذي تمثل لنا من المشاهدات البنيوية الهرمية المتقمصة في تسيير العملية التعلمية هذه بطريقة أستاذ مادة ورئيس قسم وعميد وهكذا. الأمر جد فيه مساءلة؛ أين هيئات الجودة النوعية في الإشراف وكأن العملية هرمية التأطير. وحتى لا نعمم النقد البناء هنا، فهناك نظم الجامعات المفتوحة التي يناط بنا الاستفادة منها، مثل الجامعة المفتوحة في بريطانيا والجامعة العربية المفتوحة، اللتين يُسجل لهما التطوير في استخدام طرائق تربوية حديثة تتناسب مع التعليم الإلكتروني وأيضا في التعلم عن بعد.  

وإليك المشهد الجيو اجتماعي في كل قطر وزاوية في هذه المعمورة، كي ترى وتتيقن أن الإنسان الذي هو كائن مدني اجتماعي بحد ذاته، هو ذاك الإنسان في الشرق والغرب، وإن تمايز بعضهم عن بعض؛ كل حسب بيئته وتربيته وثقافته في طريقة تعامله واحتياطاته للمأكل والمشرب والدواء. 

إنه ذلك الإنسان ذاته الذي إذا مسّه الشر كان جزوعا، وإذا مسّه الخير كان منوعا، إلا من هم لربهم عابدون متقون في كل أحوالهم في السراء والضراء، وإن اختلفت المشاهد وتباينت في حدتها ؛ فقد رأينا الهلع في الاستحواذ على ما يحتاجه ومالا يحتاجة كأولويات، ورأينا الاستهتار واستقبال كورونا بالرقص واللطميات والمهاترات الإعلامية والخزعبلات الدينية حتى بدأت تتهاوى الحصون وتقع الواقعة.

ومن خلال تداعيات المشاهد الجيو اجتماعية وتباينها حسب جغرافية وطبيعة المجتمعات؛ بدأت تتكشف لنا أمور وأنماط اجتماعية لم تكن واضحة لدينا، منها الإيجابية ومنها السلبية، ولكن الذي أمعن في الإيلام أنماط الاستهتار بعقول العامة في المشرق العربي من مشاهد الرقص واللطم والردح والخزعبلات وعدم الحفاظ على خصوصية النشر على الشبكات الاجتماعية وفبركة الأخبار. وهذا ما يستدعي ربما دراسات اجتماعية مستقبلية عن الأنماط الاجتماعية عندما تجتاح  الجوائح المبيدة عالمنا في عصر الضعف الذي نعيش وإمكانية قوة التعبير عن الرأي  عبر الشبكات الاجتماعية. 

تلك مشاهدات محدودة، في حدود مقال كهذا لما كشفه كورونا من أوراق توت غطت عوراتنا فترة من الزمن؛ فيأتي ذلك الكائن المجهري النانو متري -الذي يسبح بحمد الله ولا نفقه تسبيحه- فيسقط أوراق التوت تلك عن سوءات الإنسانية في عصرنا كي تظهر الحقيقة لأولي الألباب الذين يتفكرون في خلق الله، فيعيشون مع ربهم، ويقولوا كما في الآية الكريمة من سورة آل عمران: "ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار".

فهل سنكون من أولي الألباب في عصر كورونا وما يليه؟