لا شك أنه لا أعظم من أن يبتلى الإنسان في كرامته ودينه وعقيدته، وثوابت ومقدسات الأمة التي ينتمي إليها. وهل هناك أسوأ مما سمعناه وشاهدناه من تجاوز للأعراف الدولية وحقوق الإنسان؟ أبرز دليل على ذلك ما أقدم عليه الرئيس الأمريكي المنتخب دونالد ترامب من توقيع لقرارات تخص حرمان مواطني سبع دول عربية وإسلامية من دخول الولايات المتحدة الأمريكية.
ألم يكن توقيع ترامب قراره ببناء جدار على طول الحدود مع المكسيك إهانة لها، وشكلا من أشكال الفصل العنصري، مثل جدار الفصل العنصري في فلسطين المحتلة؟ بل قد ذهب معارضون مكسيكيون حد وصف ذلك بـ"إهانة للمكسيك". وأيضا ما عبر عنه عضو مجلس الشيوخ المكسيكي ميغيل باربوزا بأنه "أعمال عدائية ضد المكسيك، وأمريكا اللاتينية، والعالم أجمع، والحرية". هذا السياج الذي أدانه الرئيس المكسيكي ووصفه بأنه "يفرق بيننا منذ سنوات بدلا من أن يجمعنا".
وفي زخم هذا المشهد وما أدى إليه من نتائج وعواقب وخيمة حتى وقتنا هذا، تراءت لي في الأفق الآية القرآنية الكريمة في سورة إبراهيم، وهي تصور من يحل قومه دار البوار: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ (28) إبراهيم.
هنا بدأت أتساءل: كيف للإنسان أن يحل قومه دار البوار؟
وما أشبه اليوم بعالم جاهلية قريش التي لم تدرك حقيقة نعمة ربهم عليه في إيلافهم رحلة الشتاء والصيف ، وكيف أطعمهم من جوع ، وأمنهم من خوف؟
كيف يمكن للإنسان أن يبدل نعمة الله عليه، فيجحد شكر توحيد ربه، وما وصل إليه من قوة اقتصادية وعسكرية وقدرات وإبداعات علمية وبحثية؟ ذلك الإنسان يجحد هذه وتلك؛ وقد تبوأ هذا الإنسان ما تبوأ في دنياه بغطاء جمع مختلف الأعراق تحت بوتقة مواطنة واحدة، مهما تخلل هذه التجربة من شواهد لا نتفق مع بعض منها، وخصوصا فيما يخص تحقيق العدل؛ ليس داخليا فحسب، بل خارجيا أيضا، ولا أوضح على هذا الصعيد، من مساندة المحتل في فلسطين والحرب الظالمة على العراق التي أهلكت الحرث والنسل والشجر والحجر والدواب.
وفي خضم العيش مع ما يحدث وهذه الآية الكريمة، تألقت في الأفق كلمات سمعتها يوما للشيخ الشعراوي رحمه الله عندما كان يهم بتفسير هذه الآية الكريمة، وعلى الأخص مقطع "وأحلوا قومهم دار البوار"، وذلك عندما وصف من يحل قومه دار الهلاك بأنه "يهينهم". وبهذا: هل من يحب قومه وخاصته يهلكهم؟ هل يمكن أن تكون والدا أو رب أسرة وتهلكها؟ فإذا كنت تفعل ذلك، فلا يمكن أن يكون أمرها يهمك، وإلا ستكون قد فقدت رشدك!!
إنك إذا أردت أن تهدم بناء شيّد على مدى عقود من الزمان، وبجهود ومصادر طبيعية وغير طبيعية، فلن يأخذك في عصرنا الذي نعيش ربما سوى دقائق معدودات بقنبلة فراغية هيدروجينية أو غيرها. أي أنك تستطيع أن تهدم وبسرعة لحظية، ولكنك لن تستطيع البناء مرة أخرى، بل إنك لن تستطيع إيقاف عواقب الهدم مهما أنفقت من مال وعلم وجهد وتقنية. فكيف بمن يعتدي على كرامة الإنسان ودينه وعقيدته وثوابته ومقدساته؟!
وفي تتابع للأحداث منذ علو صوت ترامب قبل انتخابه رئيسا إلى ما بعد انتخابه، نشهد الاعتداءات المتكررة على المسلمين في مساجدهم ومشاعرهم من قبل البعض في الولايات المتحدة الأمريكية وكندا وغيرها، ولكننا نشهد على الجانب الأخر أصواتا تشعرك بتداخل نبل الإنسانية مع قيم الحرية والعدالة.
وهنا تأخذني هذه الأصوات الإنسانية في نبلها، مقابل قرارات الرئيس الأمريكي التي وقعها لتذكر صحيفة قريش الظالمة. تلك الصحيفة التي تعاهدت بها قريش أن تقاطع النبي محمدا عليه الصلاة والسلام، وأصحابه وقومه بني هاشم وبني عبدالمطلب، المسلم وغير المسلم منهم سواء. قاطعوهم اقتصاديا، واجتماعيا، وسياسيا. وكتبوا صحيفة ظالمة بتوقيع قريش، وعلقوها في جوف الكعبة حتى تكون ملزمة لجميع قريش، وكان من أخطر ما جاء فيها "ألا يزوجوا إليهم، ولا يتزوجوا منهم، ولا يبيعوهم شيئا، ولا يبتاعوا منهم شيئا، ولا يكلموهم، ولا يجالسوهم".
ولكن في كل قوم شرفاء، ولا بد لصوت الإنسانية والنخوة أن يبزغ ويعلو، فبعد مضي ثلاث سنوات هب رجال غير مسلمين من قريش ومن عبد مناف ومن قصي، وتبين لهم كم أنهم استخفوا بالحق والعدل وتعاهدوا على نقض الغدر والبراءة منه، وقد نجحوا في أن كانوا سببا في نقض تلك الصحيفة الظالمة، وانتهى حصار قريشا ومن في جوقتها؛ فخرج محمد وصحبه ومن معهم أشداء أقوى من ذي قبل في مواجهة الظلم والظالمين.
ومع صوت النبلاء في إنسانيتهم واللذين ينظرون لمصالح قومهم بحرص وبعد نظر، ومقارنة مع صحيفة قريش الظالمة والحصار في شعب أبي طالب، ألا نجد تلك الأصوات هي من تدعو لتمزيق صحف دونالد ترامب التي وقعها؟
ألم تمزق جزئيا القاضية الفيدرالية الأميركية بروكلين صحيفة دونالد ترامب، عندما أصدرت أمرا إلى السلطات الأمريكية التنفيذية بوقف ترحيل اللاجئين والمسافرين المحتجزين في المطارات من رعايا الدول السبع المشمولة بالحظر؟
ألم تدعُ رئيسة جامعة هارفارد الأمريكية، إدارة الرئيس الأمريكي ترامب والكونغرس والقضاء إلى إعادة النظر في هذا القرار؛ مذكّرة ترامب وصحبه بقولها "نصف عمداء الكليات في جامعة هارفارد من المهاجرين، من الهند والصين وشمال إيرلندا وجمايكا وإيران، والاستفادة من المواهب والطاقات وعلم وأفكار الناس من الشعوب في أنحاء العالم، ليس مصلحة ملحة للجامعة فقط، بل كانت ولا تزال حاجة ملحة لأمتنا"؟ وهل غريب أن تقود جامعة هارفارد مع نظيراتها عالميا دفة البحث والتقدم العلمي؟
ألم يوقع حوالي 900 دبلوماسي أمريكي مذكرة داخلية تعترض على ما قرار ترامب؟ وقد عللوا رفضهم عبر (مسودة مذكرة نشرتها وسائل إعلام أمريكية) بأن القرار ينطوي على "سياسة تغلق أبوابنا أمام أكثر من 200 مليون مسافر شرعي، على أمل منع عدد صغير من المسافرين ممن يودون إيذاءنا، وهي لن تجعل بلادنا أكثر أمنا".
ألم تعترض هذا القرار نقابتي سينما نافذتين، وأيضا نقابة المخرجين "دي جي إيه" التي تمثل مخرجي السينما والتلفزيون في الولايات المتحدة الأمريكية بقولها "إن نقابة دي جي إيه تؤمن بأن الفنانين بغض النظر عن أصولهم ودينهم وجنسهم يجب أن يتمكنوا من المجيء إلى الولايات المتحدة لعرض أعمالهم"، وقالت أيضا "إن المبادلات الفنية المفتوحة هي في صلب وجودنا، وهذا ما تتناوله السينما والتلفزيون أكثر فأكثر، أي توحيد البشرية وتجاوز الحدود والثقافات".
ألم يذكّر إعلامي أمريكي ترامب، أن من أبدع جهاز هاتف الآي فون الذي يستخدمه هو نجل لاجئ سوري؟
ألم يُرفع الأذان قبل أيام في محيط كنيسة ترينتي في كوبلي، في بوسطن التابعة لولاية ?ولاية ماساشوستس الأمريكية؟
ألم يكشف موقع "فورتشن" الأمريكي، وحسب مؤشر "ستاندرد آند بورز"، أن أكبر خمس شركات تقنية (أبل ، أمازون، ميكروسوفت، فيسبوك، ألفابت) قد خسرت الاثنين 30 يناير، ما يقارب 32 مليار دولار من قيمتها السوقية ، فيما كانت خسارة غوغل وحدها من قيمتها السوقية حوالي 13.8 مليار دولار؟ وهل لا يعي المستثمرون في هذه الشركات وغيرها ما يترتب عليه الأمر من تقلص وهروب الأيدي العاملة والاستثمار إلى خارج الولايات المتحدة الأمريكية؟
هذه مقتطفات نوعية من داخل الولايات والمتحدة الأمريكية لشواهد محاولات تمزيق صحيفة دونالد ترامب وجوقته...
وأما عالميا ، فيكفي العالم بأسرة تلك المرأة التي هي بألف رجل ممن يُعدون في هذا العالم.. إنها المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل التي قالت كلمات دافعت فيها عن الإنسان، بل عن الإسلام قلما تسمعها في عالمنا الذي نعيش. كلمات قالتها ينبغي أن تسجل للتاريخ في دفاتره، لا عند الشيخ غوغل الذي قد نفقده يوما ما، ربما لأنهم قد يغيرون قواعد ما يسجل وما لا يسجل!!
ألا يكفي الشرق والغرب ما قالته تلك المرأة القائدة - ذات الأصول الألمانية الشرقية: "مكافحة الإرهاب الضرورية والحازمة لا تبرر إطلاقا تعميم التشكيك بالأشخاص من ديانة معينة، وتحديدا هنا الإسلام".
ولم نعهد شدة في تعبير من أمين عام للأمم المتحدة مثل ما قاله أنطونيو غوتيريس بانتقاد شديد لقرار ترامب هذا قائلا: "الإجراءات العمياء قد لا تكون فاعلة"؛ مذكرا في بواطن حديثه بمبادئ الأمم المتحدة بقوله: "إن البلدان الساعية إلى تعزيز مراقبة حدودها لا يمكنها اتخاذ تدابير تقوم على أي شكل من أشكال التمييز على أساس الديانة أو الإثنية أو الجنسية".
وكيف لنا أن نختم بعض مقتطفات عالمية دون توجيه التحية للرئيس المكسيكي، وهو يدافع عن أمته بقوله: "يؤسفني وأدين قرار الولايات المتحدة مواصلة بناء الجدار الذي يفرق بيننا منذ سنوات بدلا من أن يجمعنا. المكسيك لا تؤمن بالجدران. قلتها مرات عدة: المكسيك لن تدفع لأي جدار". ذلك الجدار الذي محيطه يربو عن ثلاثة آلاف كيلومتر، وتكلفته تقدر بثمانية مليارات دولار، والذي يريد ترامب أن يبنيه، وتدفع المكسيك قيمة بناءه!!
شكرا لك دونالد ترامب.. لقد أيقظت العالم من سباته ، بل لقد أيقظت من تنبض الإنسانية في عروقهم.
شكرا لك دونالد ترامب.. لقد أعليت صوت الإسلام عاليا، في الوقت الذي تقف وتتفوه ضد أمته.
شكرا لك دونالد ترامب.. لقد ساهمت في تمييز الخبيث من الطيب.
شكرا لك ترامب.. لن تنال منا أمة الإنسانية أبدا.
نحيي هؤلاء النبلاء والحكماء من المسلمين وغير المسلمين على إنسانيتهم وقولهم قولة الحق.. هؤلاء يستحقون منا كل تقدير واحترام وحفظ للمعروف، وخصوصا المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل.
ندعو الله عز وجل أن يحفظ أمة الإنسانية من جاهل أحمق في الشرق والغرب، لا يشعل فتيل الفتنة ليحرق فيها، ليس نفسه وحسب، بل أمة الإنسانية أيضا، حتى لا نعيش في دورة من العنف والعنف المتبادل.
هنا تدق ساعة الحكمة الحرجة في الغرب قبل الشرق؛ لتفادي من يحل بقومه دار البوار.
وكما أفسد الله عز وجل صحيفة قريش الظالمة، سوف يفسد الله صحف الظلم كلها، ولكن سنن الله لا تتغير، فهل هناك من صبروا وهم يهدون بآياته التي يوقنون بها؟
:) وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ 24 السجدة(.