يبدو أن كورونا لا يَحمل البشر على إعادة النظر في السياسات السائدة حالياً وفي الأنظمة الصحية، بل إنه يعيد صياغة مفهوم القوة باعتبارها قدرة الدولة على إنقاذ مواطنيها من هجمات الكائنات المرئية وغير المرئية. وبالنسبة لليمن، فإنه يحمل أكثر الأطراف المحلية سوءا وتلك التي تصرفت بلؤم على الساحة اليمنية من الأطراف الخارجية على التفكير ملياً في عروض السلام؛ التي ما فتئت الأمم المتحدة تقدمها للخروج من دائرة الحرب التي تعصف باليمن منذ أكثر من خمسة أعوام.
بلغت الحرب في اليمن مداها في العبث، ولم تستنفد قدرتها على إيذاء اليمنيين، وأسوأ ما في هذه الحرب أنها تمعن في تخليق الأشرار وتمنحهم كل الإمكانيات، وتعطيهم مساحات واسعة للتحكم والهيمنة ضمن معادلات الصراع التي تتأثر بشكل أساسي بالأطماع الجيوسياسية للمتدخلين الإقليميين، والأحقاد العقائدية المطمورة عبر التاريخ لأحد أهم الأطراف الداخلية في الحرب، وهي جماعة الحوثي.
جاءت هذه الحرب لتعاقب اليمنيين على ثورتهم وإرادتهم في التغيير، وإذا بها توفر كل الأسباب التي جعلت من استهداف اللاعبين الإقليميين وكسر هيبتهم وتعرية حصانتهم الأمنية والجيوسياسية أمراً ممكنا، على نحو ما رأينا في التصعيد الذي أخذ شكل استهداف لعصب الاقتصاد السعودي في 14 أيلول/ سبتمبر 2019.
كان الحوثيون مجرد عصابة استثمرت حالة التقاء المصالح الآنية والتكتيكية على مدى السنوات العشر الماضية، مع اللاعبين الأقوياء بدءاً من الرئيس المخلوع علي عبد الله صالح مروراً بالسعودية والإمارات، لتتحول هذه الجماعة المسلحة إلى واحد من أهم المؤثرين على الساحة اليمنية، وإلى أكثر الأدوات المحلية فتكاً باليمنيين وإيذاء لوجودهم وأرزاقهم وكرامتهم.
كان المبعوث الأممي غريفيث ومن خلفه الأعضاء الدائمون في مجلس الأمن، ومعهم السعودية والإمارات ودول كثيرة في المنطقة، قد تواضعوا على أن الخطر الداهم الذي يتهدد اليمنيين هو خطر الإرهاب الذي تمثله القاعدة وداعش، وتبين فيما بعد أن هذا الخطر مجرد صناعة وأداة يجري التحكم بها بشكل متقن من قبل الأجهزة الاستخبارية الخارجية. ومع ذلك بقيت سيفاً مسلطاً على اليمنيين وتسببت في تجريع الطيف الأوسع من الشعب اليمني صيغا غير منصفة للحل؛ حُرموا معها من المكافأة المستحقة وهي الحصول على دولة اتحادية ديمقراطية.
نسي غريفيث ومعه المجتمع الدول خطر القاعدة وداعش، ولاذوا بجائحة كورونا لتوفير ذريعة أخرى لتمرير حل سياسي في ختام أشهر من المعارك التي زادت الحوثيين تمكيناً، وتكشفت معها خيوط اللعبة فباتت أطراف ادعت أنها تساند الطرف الشرعي في اليمن؛ تعبر عن انحيازها الواضح والصريح ضد السلطة الشرعية وجيشها، وتشجع بل وتصفق للإنجازات العسكرية للحوثيين التي تحققت في ظل ظروف ميدانية مثيرة للاستغراب.
أعلنت السعودية من جانب واحد وقفاً لإطلاق النار دخل حيز التنفيذ منذ فجر التاسع من الشهر الجاري، ولمدة أسبوعين قابلة للتمديد. كان لافتاً أن هذا الإعلان سبق الحكومة الشرعية ولم يستشرها، وقد أرادته السعودية مجدداً إنجازاً سياسياً لصالحها ولو على حساب السلطة الشرعية التي تدعمها وتتواجد عسكرياً في اليمن لهذا السبب وليس لأي سبب آخر.
حدث هذا من قبل مع اتفاق الرياض، الذي لم تكن السلطة الشرعية بحاجة إليه قدر حاجتها إلى دعم من التحالف ينهي التهديدات الناشئة في عدن ويمكّن هذه السلطة من استعادة نفوذها في مناطق يفترض أنها محررة.
لهذا ليس غريباً أن يأتي موقف السلطة الشرعية لاحقاً لإعلان وقف إطلاق في صيغة تأييد ومباركة للقرار، ما يعني أن هذه السلطة لم تعد تتحكم في هذه الحرب بالمرة، خصوصاً وأن السعودية عملت طيلة الفترة الماضية على تمكين قادة جدد من المواقع العليا في الجيش الوطني على نحو تتجلى معه الصيغة الوظيفية لهذا الجيش؛ باعتباره أداة لتحقيق المصالح الجيوسياسية السعودية أكثر من كونه معنياً بهزيمة الانقلابيين واستعادة الدولة، وإن كان يحارب تحت هذا الشعار على كل حال، ولا لوم على مقاتليه المخلصين.
ما إن أعلنت السعودية وقف إطلاق النار الذي لم يرحب به طرف أساسي في الحرب، هو جماعة الحوثي، بل وصف القرار بـ"المناورة السياسية"، أعلن غريفيث أنه أرسل إلى الأطراف مقترحات الأمم المتحدة المحدثة لاتفاقات حول وقف إطلاق نار يشمل عموم اليمن، وحول عدة إجراءات اقتصادية وإنسانية لتخفيف معاناة اليمنيين، وبناء الثقة بين الأطراف، ودعم قدرة اليمن على التصدي لتفشي كورونا المستجد، بالإضافة إلى استئناف العملية السياسية.
الاتفاقات المحدثة وصفها غريفيث بأنها "متوازنة، وتعكس المصالح الأساسية لكل الأطراف إلى أقصى حد ممكن، كما تمثل حزمة واقعية وشاملة تمكن اليمن من الابتعاد عن عنف ومعاناة الماضي، واتخاذ خطوة تاريخية نحو السلام"، وذلك جرياً على ما عرف عنه من تفاؤل رغم عدم توفر الإمكانيات الموضوعية لإنجاح ما يخطط له أو يسعى إلى تنفيذه، على نحو ما تكشف عنه الإنجازات الخائبة لهذا المبعوث على مدى أكثر من عامين.
جائحة كورونا التي سجلت أولى حالة إصابة به في مدينة الشحر الساحلية الواقعة في محافظة حضرموت، ها هي توفر الذريعة المناسبة لغريفيث، لكنه نسي على ما يبدو أن الجائحة الحقيقية التي تواجه اليمنيين وتخيفهم هي المشروع الذي يمثله الحوثيون ويساعد غريفيث في التأسيس له وشرعنته، إلى جانب التغطية التي توفرها تحركات غريفيث للسعودية وشريكتها الأخرى في الحرب للإفلات من المسؤولية عن النتائج الكارثية للحرب.
الإمارات توقد لحربٍ محتملة ضد القوات السعودية في عدن
البُعد الإقليمي لتوقيف وزراء في الشرعية اليمنية