لم يعرف العرب قبل الإسلام عملية منهجية للتأريخ، فكان عبارة عن قصص مبعثرة، تركزت إما على القصص الدينية (الوثنية، اليهودية، المسيحية) أو على الأنساب، بحكم أن القبيلة تشكل الوحدة السياسية-العسكرية.
وقد غلب على هذه القصص قبل الإسلام طابع الثقافة الشفوية، فهي عبارة عن حكايات شفوية قبلية لا تحتوي على نظرة تاريخية ولا على منهج تاريخي، وبالتالي هي أقرب للحكايات الشعبية منها للنهج التاريخي العلمي.
الفتح الإسلامي
اختلف تماما بعد الإسلام، فقد جاءت عملية التدوين التاريخي في إرهاصاتها الأولية لأسباب دينية-سياسية مرتبطة بالوقائع على الأرض، ومن هذه الوقائع:
ـ أثر القرآن الكريم، حيث تحدث عن قصص دينية للأنبياء والرسل، وأبرز فيها جدلية الصراع، فضلا عن ذكر القرآن لجوانب كثيرة من سيرة النبي محمد صلى الله عليه وسلم في مكة والمدينة.
ـ حاجات عملية فرضها الواقع الإسلامي المتزايد في الاتساع نتيجة الفتوحات، فمعرفة أسباب نزول الآيات وأمور التشريع الواردة في القرآن مرتبطة بأحداث ومواقف تاريخية.
لقد ظهرت مشاكل جديدة نتيجة الفتوحات، مثل، الضريبة، الزكاة، خراج الأرض، الجزية الإدارة، الدواوين.. إلخ.
ـ أصبح التاريخ في الإسلام له هدف، أي له غاية، وهذا يعني أن التاريخ هو عبارة عن مسار مستقيم، وليس مسارا دائريا، وقد عنى هذا الأمر أنه يجب الإلمام بفهم الحوادث التاريخية لاستخلاص العبر، ولفهم مراد الخالق.
ـ الخلافات السياسية (الخلافة/ الغمامة) بين المسلمين كان لها دور رئيس في عملية التدوين التاريخي، فقد لجأ كل طرف إلى التاريخ لاستنباط البراهين التي تدعم رأيه.
وقد بدأت عملية التأريخ السياسي في منتصف القرن الثاني للهجرة، أي بعد اكثر من قرن على اندلاع الخلافات السياسية.
ـ الخلاف السياسي أدى إلى خلاف أيديولوجي سرعان ما عبر عنه بوجود تيارين ينفصلان تدريجيا (السنة، الشيعة)، وكانت عملية التأريخ هذه جزءا لا يتجزأ من مشروع التدوين الرسمي للموروث الإسلامي.
وكانت عملية التدوين تستهدف بحسب الجابري، غربلة المعارف وتبويبها بأبواب مختلفة (حديث، تفسير، فقه، لغة، تاريخ)، إنها عملية إعادة بناء ذلك الموروث الثقافي بالشكل الذي يجعل منه تراثا، أي إطارا مرجعيا لنظرة العربي إلى الأشياء، إلى الكون والإنسان والمجتمع والتاريخ.
ينقل جلال الدين السيوطي عن الحافظ الذهبي ما يلي:
فـي سنة 143 هـ شرع علماء الإسـلام
فـي هــذا العصر فـي تــدوين الحــديث
والفقه والتفسير، فصنف ابن جريح في
مكــة، ومـــالك الموطــأ فــي المــدينة،
والأوزاعــي بالشــام، وابن أبــي عروبة
وحمــاد بـن سلمة وغيرهمــا بـالبصرة،
وصنف ابن إسحــاق المغـــازي، وصنف
أبو حنيفة الفقه والــرأي، ثم بعـد يسير
صنف هشيم والليث وابن لهيعة ثم ابن
مبارك وأبو يوسف وابن وهب.
وكثر تـدوين العلم وتبــويبه، ودونت كتب
العـربية واللغــة والتــاريخ وأيـام النـاس.
ـ دخول أعداد كبيرة من غير العرب في الإسلام، ما دفع البعض، خصوصا الخلفاء إلى الاهتمام بتاريخ الأنساب، فقد ظلت قريش ذات مكانة في الوعي الجمعي وعاملا مهما في ترسيخ المكانة الاجتماعية والسياسية والدينية.
ويذكر الأصفهاني فوائد التاريخ على أنه:
لــولا التـاريخ لضـاعت مســاعي أهـل
السيـاسـات الفـاضلة وجهـل مـــا وراء
صعوبة الأيام من سهولتها، وسهولتها
من صعوبتها.
كان المسلمون بداية يأخذون الحديث عن الصحابة ومنهم عن الرسول من دون إسناد، لكن كثرة الأحاديث وتنوع رواياتها، دفع إلى وضع ضوابط أهمها التأكيد على صحة الأسانيد.
الخبر والسنة صورتان تأسيسيتان للتأريخ العربي، ففيهما يدخل سرد الحادثة أو الواقعة أو الحديث، في أنواع عمليات التأريخ وفق ما يقول وجيه الكوثراني.
ـ التأريخ الحولي (السنون) وفيه تعرض الأخبار تبعا للسنين، ومن أسماء هذا التيار، الهيثم بن عدي صاحب كتاب التاريخ على السنين، وابن الفوطي في كتابه نظم الدرر الناصعة في شعر المائة السابعة، والسخاوي في كتابه الضوء اللامع في رجال القرن التاسع، وغيرهم.
ـ التاريخ العالمي، يتناول تاريخ العالم لا سيما السابق على الإسلام، وأهم مؤرخيه: الطبري صاحب كتاب تاريخ الأمم والملوك، والمسعودي في كتابه مروج الذهب وجواهر المعادن، واليعقوبي في كتابه تاريخ اليعقوبي.
الهجرة النبوية
يبدأ التاريخ الهجري من هجرة الرسول من مكة إلى المدينة، وكانت هذه الهجرة فاصلا تاريخيا مهما في التاريخ الإسلامي، فكانت البداية للتاريخ الهجري.
لكن، بدايات عملية التأريخ الإسلامي شملت تقريبا مجمل حياة الرسول: المبتدأ (قبل البعثة/ العصر الجاهلي)، المبعث (نزول الرسالة/ حياة النبي في مكة والمدينة)، والمغازي (غزوات الرسول).
واهتم التأريخ بداية بسيرة الرسول، وسميت الدراسات الأولى لحياته بالمغازي، وعلم المغازي والسير هو علم على فن من فنون علم التاريخ من حيث أنه يؤرخ لحياة النبي ابتداء من إرهاصات بعثته، وأحوال العرب الذين بعث فيهم، وأحداث مولده، وأحوال نشأته، وقصة بعثته، وأخبار دعوته في مكة، وهجرته إلى المدينة، وإقامته للدولة فيها، وغزواته وسيرته، وسياسته مع المسلمين والمحاربين والمعاهدين إلى وفاته.
ويقول عبد العزيز الدوري إن بدايات علم التاريخ عند العرب سارت في اتجاهين أساسيين: الاتجاه الإسلامي أو الاتجاه الذي ظهر عند أهل الحديث، والاتجاه القبلي أو اتجاه الأيام.
يذكر ابن الأثير في كتابه الكامل في التاريخ:
كتب أبـا موسى الأشعري إلى الخليفة
عمر بـن الخطــاب أنـه يأتينـا منـك كتب
ليـس لهــا تــاريـخ، فجمـع عمر النــاس
للمشــورة فقـــال بعضهــم أرخ لمبعث
النبــي صلــى الله عليـه وسلـم وقــال
بعضهم لمهاجرة رسول الله صلــى الله
عليـه وسلم، فقــال عمر: بــل نـــــؤرخ
لمهاجرته فإن مهاجرته فرق بين الحـق
والباطل.
ويعتبر عروة بن الزبير توفي 94 هـ / 712 م مؤسس كتابة المغازي التي تناولت تقريبا مجمل حياة الرسول العامة.
بعد عروة حدثت عملية تطوير لدراسة المغازي عبر ثلاث شخصيات: عبدلله بن أبي بكر بن حزم المتوفى تقريبا في منتصف القرن الثامن ميلادي، وعاصم بن عمر بن قتادة المتوفى أيضا في نفس المرحلة، ومحمد بن مسلم بن شهاب الزهي الذي توفي أيضا في نفس المرحلة.
ويعتبر الأخير الأكثر أهمية بين الثلاثة، لأنه وضع لأول مرة بداية علم التاريخ من خلال إدخاله الإسناد الجمعي، حيث يدمج روايات عدة في خبر متسلسل.
بعد ذلك، جاء موسى بن عقبة المتوفى 141 هـ/ 758 م، ثم ابن إسحاق المطلبي المتوفى 151 هـ/ 768 م الذي كتب أقدم سيرة محفوظة إلى الآن.
غير أن الأخطاء التي وقع فيها ابن اسحاق دفعت الكثيرين إلى الإعراض عنها، حتى أعيد بناؤها على يد محمد عبد الملك بن هشام المعارفي المتوفى تقريبا في منتصف القرن التاسع ميلادي.
ويعتبر كتابه السيرة النبوية من أقدم السير الجامعة وأصحها، استخرجه من كتاب السيرة لمحمد بن إسحاق المطلبي، وهي تهذيب لسيرة ابن إسحاق بعدما حذف منها ابن هشام الإسرائيليات والأشعار المنتحلة، وأضاف إليها معلومات في اللغة والأنساب ما جعلها تنال رضا جمهور العلماء.
ويذهب كثير من العلماء إلى أن الروايات التي قدمها ابن هشام تتوافق بشكل كبير مع كتب الحديث.
وبسبب أهمية كتاب السيرة النبوية لابن هشام، فقد قام عدد من المؤرخين بشرح هذا الكتاب، منهم: الحافظ السهيلي (ت 230 هـ/ 847 م)، ومحمد بن سعد في كتابه الطبقات، والبلاذري (ت 279 هـ/ 896 م) في كتابه أنساب الأشراف، والطبري (ت 310/ 926 م) في كتابه تاريخ الأمم والملوك، وابن حزم الظاهري (ت 456 هـ/ 1064 م) في كتابه جوامع السيرة، وابن الأثير (ت 632 هـ/ 1233 م) في كتابه الكامل في التاريخ.
يرى هشام جعيط أن مجمل البحث في المصادر التاريخية حول سيرة النبي يجب ألا يتجاوز ما دون قبل القرن الرابع، ويختصرها في سيرة ابن إسحاق، ومغازي الواقدي (ت 207هـ/ 813 م)، وطبقات ابن سعد (ت 230 هـ/ 844 م)، وأنساب الأشراف للبلاذري (ت 279 هـ/ 892 م)، ويختمها بالطبري.
وإذا كانت الطبقات الكبرى لابن سعد هي أقدم مصدر تاريخي يؤرخ لطبقات الصحابة والتابعين وتابعيهم، فإن تاريخ الأمم والملوك للطبري هو العمدة في التاريخ السياسي للمسلمين من عصر النبوة إلى بداية القرن الرابع هجري.
ويعتبر الأخير عميد المؤرخين المسلمين، فقد تناول ما كتبه السابقون من الرواة والإخباريين ورجال الحديث والنسابة، وقد أخذ عن كل في فنه وتخصصه، فأخذ التفسير عن مجاهد وعكرمة وغيرهما، وأخذ عن أبان بن عثمان وعروة في السير، وأخبار الراشدين أخذها من سيف بن عمر، وأحداث الجمل وصفين أخذها من المدائني وأبو مخنف.
وشهد العصر العباسي تطورا في كتابة التاريخ حيث أصبح المؤرخ المسلم يخصص في كتاباته ما يعد تاريخا صرفا، وتنافس المؤرخون في ما قدموا من مؤلفات ضخمة في التاريخ.
إليزابيث الأولى.. القطيعة مع الكاثوليكية