هي أزمة غياب "الكبير"، هكذا قرأتها في البدء وفي الانتهاء!
عندما شاهدت مشهد الغوغاء بإحدى قرى الوجه البحري في
مصر، يندفعون
لمنع دفن طبيبة في مقابر عائلة زوجها، لوفاتها بفيروس
كورونا، كان المشهد كاشفاً في جانب منه عن انهيار منظومة القيم الخاصة بقدسية الموت والتي عُرفت بالمصريين منذ آلاف السنين. لكن هذا الجانب لم يشغلني كثيراً بقدر ما شغلني المهم في الموضوع، وهو غياب "الكبير" ووجهاء القرية، الذين يردعون أي خروج على نسق القيم السائد، ويمنعون (بما يملكون من قيمة اجتماعية) هذه الهمجية "المستجدة"، كما
فيروس كورونا حامل اللقب: "المستجد"!
وفي الريف المصري، تكون الوفاة سبباً في وقف التشاحن بين العائلات، ولا يمثل دهشة لمن عاشوا فيه؛ أن يجدوا ممن يشاركون في جنازة أحد اليوم ممن كانوا يرفعون السلاح في وجه عائلته بالأمس. وقد عاصرت زمانا كان فيه الأهل يشاركون في الأحزان فيمتنعون عن فتح المذياع أو التلفزيون، ويتوقفون عن شراء اللحوم وطهيها، إلى جانب بعض الأمور الأخرى، ولمدة أربعين يوماً، أو كما يقال حتى "يربعن"، فماذا جرى للمصريين؟!
خطأ التعميم:
لا يمكن تعميم ما حدث، ففي اليوم التالي لواقعة قرية "شبرا البهو"، بمحافظة الدقهلية، كانت جنازة مهيبة في قرية "شباسي عمير" بمحافظة كفر الشيخ روعي فيها مسافة "التباعد" بين المشيعين، لكن حتى وإن لم يكن ما جرى في القرية الأولى قد شكل ظاهرة، فإن مجرد حدوثه يمثل دهشة، من الجيد أن تحضر، لأنها تعني أن الجسد العام للشعب المصري لا يزال بخير!
ولا شك أن عملية سقوط
قدسية الموت، قد بدأت برعاية السلطة وإعلامها، لأن السلطة القاتلة كان يسعدها أن تجد من يؤوب معها من الشعب، فلا يمتنع فقط عن التعاطف الإنساني وعن أداء "الواجبات الاجتماعية" مع القتيل وأهله، بل بالإضافة إلى هذا سمعنا عن "الزغاريد" التي كانت تطلق من السكن المجاور، عندما يخرج جثمان الشهيد، والحمد لله أنها مرحلة لم تدم كثيراً، فشاهدنا جنازات حاشدة لمن قتلوا في السجون أو ماتوا على أيدي السلطة. وإذا كان المشهد الأول قد جرى بشكل فردي ولفترة محدودة، كان الشعب يعيش فيها تحت وقع حملات الإبادة الإعلامية، التي صورت الجيش المصري في عمليات الفض وإحراق الجثث كما لو كان يقف على الحدود مدافعاً عن التراب الوطني، فإن هذا على محدوديته لا بد من أن يصيبنا بالدهشة ويشعرنا بالوجع!
عندما كنا صغاراً كان يدللون على عيوب الحضر والمدن الكبرى كالقاهرة والإسكندرية، بغياب التضامن الاجتماعي، فتخرج من هذه الشقة جنازة، بينما الشقة الأخرى تنصب فرحاً لزفاف أو نحو ذلك، وكان يدهشنا أن يحدث هذا وتستنكره قلوبنا الغضة، وإن كنت لم أشاهد ذلك على مدى أكثر من ثلاثين عاماً من العيش في القاهرة متنقلا بين الشقق والبنايات والمناطق أيضاً، لكنه كان أمراً يدهشنا وننكره من حياة المدينة التي تفتقد للتماسك.
التمرد بعد الثورة:
انهيار منظومة القيم، على النحو الذي شاهدناه في قرية "شبرا البهو" مع جنازة الدكتورة "سونيا عبد العظيم"، لا يبدو هو الموضوع الأساسي، ولكن اللافت بالنسبة لي هو غياب "الكبير" الذي يضرب على يد الخارجين على هذه المنظومة، فأين ذهب الكبير؟!
في مداخلة تلفزيونية مع لميس الحديدي، قال عمدة القرية المذكورة، رداً على سؤالها حول كيف يحدث هذا مع وجوده؟ إن الناس صارت تتسم بـ"قلة الأدب" بعد الثورة. يقصد بذلك ثورة يناير!
أعلم بطبيعة الحال أن حالة من التمرد على منظومة القيم هذه، كان يقوم بها من أطلق عليهم إعلاميا شباب الثورة، وكانت في جزء منها برعاية المجلس العسكري الحاكم وأجهزة الدولة العميقة، والتي مثلت خروجا على قيم
المجتمع، حتى صارت المساجد جزءا من ميادين الإسفاف والتطاول على الخصم السياسي، وطلب إنزال الخطيب ومنعه من إتمام خطبة الجمعة، أو محاصرة هذه المساجد وقذفها بالمولوتوف والرصاص، لكن ظل هذا في المدن، ولم يصل للريف إلا في حدود التمرد الشكلي، حيث اعتبر بعض الشباب أن الفرصة صارت مواتية لعملية التصعيد الاجتماعي مع التغيير الذي تم!
بيد أننا لم نسمع عن مسجد حوصر في الريف، بعيدا عن المدن؛ القاهرة والإسكندرية على وجه التحديد، فالمساجد لها حرمتها عند المتدينين وغيرهم، ولم يحدث هذا في كل مساجد المدن أو من عموم الشباب. ففي اليوم السابق لاستفتاء آذار/ مارس كان "خطيب الجمعة" السلفي في المسجد القريب من بيتي، يلقي خطبة عن وجوب التصويت بالموافقة، وقد تململت كما تململ غيري، لكن هذا التململ لم يصل لدرجة الهمهمات المكتومة، فإن تجاوز الخطيب حدود اختصاصه، فلا يجوز لنا أن نتجرأ على قدسية المكان. همّ أحدنا بأن يعلق بعد الصلاة لكنه تراجع!
لقد رأينا كيف أن الأهالي في الصعيد مثلاً هم من حموا أقسام الشرطة ورجالها بعد سقوط مبارك، وفي بعض المدن فكر الشباب الذين سبق اعتقالهم في الانتقام، فجرى تذكيرهم بالأصول، وكيف أنه بسقوط قوة السلطة قد صار رجالها في حماية أهل البلد، ومن تقع الأقسام في زمامهم!
عمدة ابن عمدة:
كان لدي سؤال وودت لو كنت أحاور عمدة "شبرا البهو"، لكي ألقيه عليه وهو: هل هو عمدة ابن عمدة؟ ليس بهدف الحط من قدره، ولكن لفهم ما حدث، وليس كل القضايا المرتبطة بالسياسة يمكن أن تعالج من منظور علم السياسة، لأنها أكثر ارتباطاً بعلم الأنثروبولوجيا!
ففي تقديري أن هذا الخروج على نسق القيم السائدة والمتوارثة يرجع إلى تغييب دور الوجهاء، وإلى غياب "الكبير" الذي يرشد ويعلم ويمنع بما يملكه من نفوذ أدبي يستند لسلطة المجتمع وليس لمجتمع السلطة!
لقد ظلت السلطة العسكرية محافظة على القواعد والأصول التي تحكم المجتمع التقليدي في مصر، ولم تحاول التغيير في منظومة المجتمع على مدى نصف قرن، بعد ما جرى ما جرى عندما تدخل الأمن في الشؤون القبلية وصارت الدولة كلها ليست أكثر من ملف أمني!
إن الذين حكموا مصر منذ حركة ضباط الجيش في 1952، لا ينتمون إلى العائلات الكبيرة، وليسوا من أبناء أسر معروفة، أو تتمتع بأي وجاهة اجتماعية، لكن النسق القبلي السائد تقبل الأمر معتمدا صيغة الترقي الوظيفي اجتماعياً، وباعتبار أن السلطة هي عائلة كبيرة بحكم الأمر الواقع، فيصبح من الطبيعي أن يتزوج ابن الجنايني من بنت الباشا، وهو ما روجت له الدراما في هذه المرحلة المبكرة من عمر الحركة!
ولم يتدخل عبد الناصر منكلا إلا بالإقطاعيين والذين تعمد إذلالهم، على النحو الوارد في أحد الأحكام القضائية بعد زوال حكمه، تنفيسا عن عقدة بداخله، يمكن تفهمها بأن من أوائل من شملهم قرارات التأميم هو الباشا الذي توسط له وأدخله الكلية الحربية في عهد حكومة الوفد. والنحاس باشا هو من سمح لأولاد المصريين البسطاء بدخول هذه الكلية التي كانت محرمة عليهم، ودفع ثمن هذا جزاء سنمار على يد من استفادوا من سياسته بعد قيامهم بالانقلاب العسكري!
وبخلاف معركته مع الإقطاع لم يحاول عبد الناصر أن يغير في الطبيعة الديموغرافية للمجتمع التقليدي، واستمر الحال حتى حكم مبارك، وانتقال ملف الدولة بأكملها ليد الأمن، فكان التصعيد الاجتماعي بقرار أمني، بدأ في بداية التسعينات مع تولي عبد الحليم موسى منصب وزير الداخلية. فتدخل وجهاء المجتمع القبلي كان على قواعد الضبط الاجتماعي، واستخدام النفوذ الأدبي في ترشيد أداء الشباب المنتمي للجماعات الدينية. وكان للداخلية اتجاه آخر، فقد جلبت شخصيات في هذه المجتمعات تفتقد للقيمة الاجتماعية، وتم منحها النفوذ الأمني اللازم من أجل أن تقاوم الإرهاب بالتعاون مع أجهزة الأمن أو نيابة عنها!
السحر والساحر:
ومع الوقت صار هؤلاء يمثلون عبئا على الدولة، وصار نفوذهم يخيف السلطة نفسها، فكان التخلص منهم واحداً تلو الآخر بعد حملة تشويه إعلامية لكل فرد فيهم، وتبين أنهم يعيشون في بروج مشيدة، ويتاجرون في المخدرات ويعملون في تهريبها، ويستولون على أراض شاسعة مملوكة للدولة. كل هذا بموافقة الأمن في البداية، قبل الخوف من أن ينقلب السحر على الساحر! لتبقى سياسة واحدة معتمدة، هي تعيين العمد، بدلا من عملية الانتخاب، والتي كانت في الحقيقة تتم بالتوافق داخل المجتمع وفق قواعده غير المكتوبة، لتعتمد وزارة الداخلية هذا الاختيار، فصار من تعينهم تحرص على أن يكونوا أقرب إلى المرشدين الأمنيين، وهي السياسة التي فرضتها على أهالي سيناء، فدمرت بها المجتمع القبلي وأفقدته وزنه لصالح منظومة أخرى فاسدة، تنصب خلالها الخارجون على القانون بديلاً من لمن هم سادة في أقوامهم!
والحال كذلك، فمن الطبيعي أن يخرج الرعاع على قيم المجتمع، فلا يجدون من يلزمهم بجادة الصواب.
جزء من أزمة الحكم في مصر ترجع إلى غياب "الكبير"، و"الكبير" لا تعيّنه السلطة.