قامت السلطات
السعودية قبل أيام بحجب
موقعي وكالة الأناضول للأنباء وقناة "TRT" التركيتين، بدعوى تكرار إساءتهما إلى المملكة. ويجد المتصفحون في كلا الموقعين،
منذ ساعة متأخرة من مساء السبت الماضي، رسالة وزارة الإعلام السعودية التي تفيد
بأن "الموقع محجوب لمخالفته أنظمة الوزارة".
الإساءة المتكررة المشار إليها في قرار وزارة
الإعلام السعودية، هي في الحقيقة عدة تقارير إخبارية وتحليلات نشرت في الآونة
الأخيرة حول ما يجري في المملكة. وبغض النظر عن مدى صحة تلك التقارير والتحليلات
ودقتها، فإنها لا تكاد تذكر في مقابل البرامج والتقارير والتحليلات التي تخصصها
وسائل الإعلام السعودية بمختلف أنواعها لمهاجمة
تركيا.
حجب موقعي وكالة الأناضول للأنباء وقناة "TRT" التركيتين خطوة سياسية
بامتياز، وتصعيد جديد من الرياض ضد أنقرة، في ظل التوتر المتنامي الذي تشهده
العلاقات التركية السعودية منذ تفجر ثورات الربيع العربي، ووقوف تركيا إلى جانب
مطالب الشعوب، في مقابل دعم السعودية للأنظمة الدكتاتورية القمعية، وانقلاب الجيش
المصري على الرئيس الشرعي المنتخب محمد مرسي رحمه الله. كما أن جريمة
اغتيال الكاتب الصحفي الشهير جمال خاشقجي في القنصلية العامة بإسطنبول، من قبل رجال ولي
العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، وإصرار تركيا على متابعة القضية لمعاقبة
المتورطين في الجريمة، زاد الطين بلة، ورفع مستوى التوتر، وأفقد الجانب السعودي
صوابه تماما. وبالتالي، فإن هذا التصعيد الجديد ما هو إلا امتداد للخطوات السابقة.
التصعيد السعودي الأخير من
خلال حجب مواقع وسائل الإعلام التركية، لفت الأنظار في تركيا إلى وسائل الإعلام الممولة
من قبل الدول الأخرى، وأجَّج النقاش من جديد حول دور تلك الوسائل وأهدافها؛ لأن
السعودية التي حجبت موقعي وكالة الأناضول
للأنباء وقناة "TRT" التركيتين بسبب ما اعتبرته "إساءة إلى
المملكة"، تموِّل مواقع إخبارية في تركيا تهدف إلى التأثير على الرأي العام
وتوجيهه ضد الحكومة التركية عموما، ورئيس الجمهورية التركي رجب طيب أردوغان على
وجه الخصوص.
هناك عدد كبير من وسائل
الإعلام المختلفة تموِّلها كل من الولايات المتحدة وبريطانيا وألمانيا وبعض الدول
الأوروبية الأخرى، بالإضافة إلى روسيا وإيران والسعودية والإمارات. وتقوم كافة تلك
الوسائل بنشر تقارير وتحليلات تخدم أجندة الدول المموِّلة، بل في بعض الأحيان،
تبتعد عن أخلاق المهنة ومبادئ الإعلام، فتنشر أكاذيب وشائعات ومعلومات مضللة لإثارة
الشارع التركي، متسترة وراء درع "حرية الصحافة"، كما تفعل منذ بداية
تفشي فيروس كورونا في العالم. ومن تلك الوسائل، موقع "الإندبندنت
التركي" الذي يتخذ من إسطنبول مقرا له، ويديره صحفيون أتراك بتمويل السعودية.
هناك من يطالب بإغلاق جميع
تلك الوسائل الممولة من الخارج، بحجة أنها تعمل ضد مصالح تركيا، وتنشر شائعات تشكل
تهديدا لأمن البلاد واستقرارها، وآخرون يرون أن تركيا دولة قانون يحكمها نظام
ديمقراطي يحترم حرية التعبير وحرية الصحافة، وأن إغلاق وسائل الإعلام يجعلها كتلك
الدول الدكتاتورية القمعية. وبين هذا وذاك آراء أخرى تستحق الدراسة والتأمل فيها.
ومن الآراء المطروحة
للنقاش، ضرورة التعامل بالمثل مع وسائل الإعلام الممولة من الدول الأخرى. وعلى
سبيل المثال، عدم السماح للسعودية بتأسيس موقع إخباري في تركيا وتمويله، ما لم
تسمح هي بتأسيس موقع إخباري بتمويل تركي يتخذ من الرياض أو جدة مقرا له، ويمكن أن
ينشر تقارير وتحليلات تنتقد الملك سلمان بن عبد العزيز وولي عهده الأمير محمد بن
سلمان وسياسات الحكومة السعودية في مختلف الملفات.
المادة 69 من الدستور التركي
تحظر تلقي الأحزاب السياسية دعما ماليا من الدول الأخرى، وتعتبر ذلك سببا لإغلاق الحزب
نهائيا؛ لأن الحزب السياسي الذي تموِّله دولة أخرى، سيعمل بالتأكيد لتحقيق مصالح
تلك الدولة. وقد يقول قائل إن وسائل الإعلام ليست أحزابا سياسية، إلا أنه لا يمكن
أن ينكر أحد دور وسائل الإعلام في توجيه الرأي العام وتأثيرها على آراء الناخبين
في الأنظمة الديمقراطية.
تركيا فيها عدد كبير من
وسائل الإعلام التقليدية والحديثة، الموالية للحكومة والمعارضة لها، وتتمتع تلك
الوسائل بمستوى عالٍ من الحرية. ومن الضروري الحفاظ على حرية التعبير وحرية
الصحافة، إلا أن الحديث هنا ليس عن وسائل الإعلام التركية المعارضة للحكومة، بل عن
تلك الوسائل التي تموِّلها دول أخرى، هي في الأصل تعادي
الحريات، ولكنها تستخدم
وسائل الإعلام التي تموِّلها لاستهداف التجربة الديمقراطية التركية الناجحة،
مستغلة أجواء الحرية الموجودة في تركيا. كما أن عدم التعامل بالمثل مع وسائل الإعلام
الممولة من الخارج يؤدي إلى منافسة غير عادلة بين القوى الإقليمية، ويجعل تركيا
ساحة مفتوحة لعمليات منافسيها وخصومها.