من الجدير بالذكر أنه يمكننا أن نحيل إلى مثلث غاية
في الخطورة، وهو الذي يتعلق بالتجهيل والخوف والكراهية، إنما شكل في حقيقة الأمر
جملة من
القيم والأخلاق السلبية وشكل علاقات الناس، ضمن إطار يتعلق بسلوكيات غريبة
على المجتمع
المصري وشبكة علاقاته الاجتماعية التي أصابها من العطب والتوتر
والترهل، بل والانحطاط في التصورات والإدراكات والسلوكيات والممارسات..
المسألة التي تتعلق بالتجهيل أكدت على افتقاد عملية
الوعي، وكذلك الإدراك السليم بما يحقق العمل الواجب الذي يترتب على هذا الإدراك
الرشيد لهذه الأمور. في الحقيقة شكل كل هذا خطورة حقيقية بما يتعلق بعموم حياة
الناس ومعاشهم، وفي هذا المقام فإن هذه المنظومة الانقلابية إنما انطلقت في هذا
الشأن من أمور ألفتها تتعلق بالتغييم والتعتيم وعدم الشفافية وعدم المسؤولية، في
إطار ما يتعلق بمواجهة كثير من الأزمات في هذا المقام. واستمرأت هذه المنظومة
الانقلابية غالبا في كل ما يتعلق بإسناد كل الأمور التي تتعلق بفشل مفضوح لا
تستطيع تبريره، فتحيله على غيرها المتمثل في العدو المصنوع أو المصطنع. فعلى سبيل
المثال، ستسند هذه المنظومة أي فشل إلى الإخوان من أهل الشر؛ هذه الشماعة المفضلة
لديها، تساعدها في ذلك أجهزة إعلامية فاشلة وفاسدة منافقة ومراوغة تحاول من كل
طريق جعل هذا الافتراء والكذب ديدنا ومسلكا في خطابها حول الإشكالات المختلفة التي
تتعلق بكل حياتنا العامة وأزماتنا المتتالية، والتحديات التي تتعلق بالمجتمع
والوطن.
ضمن هذا المثلث الخطر يأتي
احتراف منظومة الانقلاب في صناعة مجتمع الخوف والكراهية الذي بدأ يصيب الاجتماع
والوطن وشبكة العلاقات الاجتماعية، وأدخلها في حالة من الحرج والعنت ونال من هذه
العلائق الاجتماعية وضربها في مقتل، وبدت منظومة القيم الأساسية التي كان يتسم بها
الشعب المصري من مروءة وشهامة تتآكل بشدة وتتوارى؛ ويحل محلها نمط من التوحش غير
المفهوم وغير المقبول والمعقول، وهو أمر تبدى في ظواهر وأشكال كثيرة ووصلت ذروتها
يوم أن قام البعض بتحريض قرية بأسرها على عدم قبول واحدة منهم ومن أهلها بعد موتها
لدفنها في مقابرهم؛ في سياق مركب من التجهيل والخوف والكراهية.
وبدا ذلك الأمر يعبر عن صدع
يصعب أن يلتئم في المجتمع. ونظن أن هذا الوضع الانقلابي ووفق ممارسات مضطردة
ومتراكمة لنظام الثالث من تموز/ يوليو؛ يعتبر ذلك السلوك المشين غير المبرر أحد
أهم ثمرات تلك المنظومة بما زرعت، ليعبر في الحقيقة عن نظام انقلابي شديد الخطورة
على مستقبل هذا الوطن وعلى الحفاظ على كيانه الاجتماعي وبنيانه المجتمعي، وعلى
الإبقاء على منظومة قيم التأسيس المحفورة في كيان هذا الشعب وعلاقاته في ما يعبر
عنه في خطابه العام بـ"التزام الأصول".
هذه الأصول بدا أنها تتهدد
وهذه القيم بدا أنها تتبدد. ووفق تفسيرات عدة ألقى الكثيرون اللوم على هؤلاء من
أهل القرية، من دون الإشارة إلى كيف صار هذا السلوك النشاز والمستهجن والذي يعبر
عن حقارة ووضاعة؛ شأن تلك القرية بأهلها وسلوكهم حيال موت أحدهم، على الرغم من أن
هذا البيت الذي تنتمي إليه المتوفاة معروف بالخير وأياديه البيضاء على القرية
وأهلها، فلماذا كان هذا السلوك من الإنكار والانحدار؟
في واقع الأمر أن صناعة
مجتمع الخوف الذي طال الجميع ووصل إلى عصب المجتمع وصناعة مجتمع الكراهية الذي
تمكن من نخاعه، إنما يعبران عن حالة صارت قابلة للتكرار ومزيد من التدهور
والانحطاط؛ وهو أمر جعلنا نؤكد دوما على خطورة هذه الحالة الانقلابية، ليس فقط على
المستوى السياسي أو استبداد السلطة وقهرها أو غشم ظلمها وطغيانها، ولكن أن يتحول
ذلك إلى التأثير على الحالة المجتمعية وإلى إعادة صياغة شكل المجتمع وعلائقه
ومنظومة قيمه الأساسية التي كان يطلق عليها "الأصول" التي لا تقبل تنازلا
أو تفريطا.
إن هذا الأمر إنما يفرز فئة
في المجتمع هي تحت خط الإنسانية، هذه الفئة تشكل الخطر الكبير على المجتمع وتعد مؤشرا
خطيرا وحقيرا على تدهوره وانحطاط أصول اِجتماعه. وإذ نتذكر فإننا نشير إلى "رابعة
والنهضة وأخواتهما وما سبقهما ولحقهما" من استخفاف بالكيان الإنساني حيا
وميتا، فماذا يمكن أن يفترق ما فعله أهالي القرية عما يفعله وفعله أهل النظام
والسلطة حينما يساومون أهل أحدهم وقد صُفي جسديا بلا مسوغ أو مبرر أو مات موتا
بطيئا ضمن عملية متعمدة بالإهمال الطبي في سجنه، على دفنه بلا جنازة وبلا مشيعين، في
مقابل تسليم جثمانه إلى ذويه؟ كل هذا يتعلق بمنظومة افتقدت القيم وانقلبت على كل
الأصول ونالت من عصب المجتمع وكيان شبكة علاقاته المجتمعية ولحمته، وسكت الناس
وربما تواطأ بعضهم وربما فرح بعضهم مؤيدا؛ وبات هذا طقسا شبه يومي تقوم به سلطة
غاشمة لا تحفظ كرامة كيان وتستهين بحرمة أي إنسان.
إنها في حقيقة الأمر معايير
القيم الممتهنة وحال العنصرية الكامنة وصناعة الكراهية المقيتة المدمرة. أرأيت
هؤلاء حينما عجزوا عن تفسير ما يحدث وهو من صنعهم وزرعهم؛ إلا أن قالوا قولتهم
المشهورة "إن الذين قاموا بتحريض هؤلاء واستنفارهم
هم من الإخوان"؟ قولة
مشهورة تستر عورات النظام، وبعض فئات في المجتمع صنعت على أعينهم وبخطابهم صارت
تتسم بالتوحش والعدوانية المقيتة. إن نظاما لم يعد يتحدث عن فئة بعينها إلا بأنهم
أهل الشر، يجعل عموم الناس بأن يصفوا من أرادوا بأنهم من أهل شرهم حتى لو كانوا من
أهلهم. مسألة خطيرة صناعة حالة من الكراهية الخطيرة والحقيرة، فتصدعت أواصر الناس
وانزوت القيم الأصيلة وتصدر الفحش في القول وفي الفعل، بل صنّعت تقسيم المجتمع إلى
قطاعات مختلفة وفرقته إلى طوائف متشرذمة منتشرة ضمن معارك طاحنة مفتعلة، أنتج كل
ذلك مجتمعا للأسف الشديد اتسم بفقدان المعايير وباتت الأصول تنزوي وتندثر، لا تقيم
وزنا للإنسان حيا أو ميتا. هل هؤلاء الذين تجمعوا ليمنعوا دفن أحدهم يأمنون أن
تنتقل لهم عدوى
كورونا في حشدهم هذا فيموت بعضهم ويُمنع دفنهم؟ من الذي أوصل هؤلاء
لهذا التفكير والسلوك، إلا الاستهانة بكل أصول ومعايير؟
في هذا المقام سيظل عنوان
الازدواجية والانتقائية من هذه المنظومة الانقلابية العاتية في التعامل مع الأمور،
وهي التي تحيط بأحياء فتغلقها وتدعو قطعان الممثلين ليصوروا تمثيلياتهم، وتسمح
بتجمعات من قطعان من البشر حتى لا تتوقف مسليات رمضان. كُتب عليهم ذلك من أجل تضحيتهم
من أجل إسعاد المواطن المصري!
ماذا يعني عند هذه المنظومة
أن فئة الأطباء التي تقوم بمواجهة الفيروس تمثل نسبة المصابين منهم 13 في المئة من
جملة المصابين؛ إلا أن يكون ذلك إهمالا لهذه الفئة ومن دون أدنى حماية ووقاية لهم
من جراء عملهم، لا لشيء إلا أنهم مدنيون؟ فقط أهل العسكر هم المعتبرون. أرأيت
زعيمهم المأفون يسأل في كلمته الحقيرة "فين المدني اللي هنا؟!" محتقرا
هؤلاء المدنيين الذين يعملون في كل المجالات، فالمعتبر هو العسكري الذي ينبغي أن
يحصل على كل مجد وأنه وحده الذي يواجه كورونا "وحده لا شريك له"! لماذا
يسمح هؤلاء بقداس ويمنعون صلاة، من يصنع هذه المعايير الانتقائية، وبعد ذلك كله
يخرج ويتساءل البعض: ما الذي حدث للمجتمع؟!
عصابة انقلبت على كل شيء
حتى على منظومات القيم والأصول، ونخبة انحطت فانطلقت إلى ميادين صناعة الكراهية
وانخرطوا فيها نفاقا، وصار كل هؤلاء يمارسون كل هذه الأعمال الحقيرة كمؤشرات على
الانحدار. أقولها من غير مواربة: إذا أردت أن تتهم فاتهم هؤلاء الذين غذوا كل أمر
يتعلق بصناعة فئة هي تحت خط الإنسانية؛ احترفت التوحش والانحطاط.