مازال تاريخ مصر يشكل مادة ثرية للدراسة والتحليل، ليس فقط لأهمية ما شهدته مصر خلال مختلف عصورها، ولا فقط بسبب الموقع الاستراتيجي الذي تحتله مصر بين القارات، وإنما أيضا لطبيعة الأحداث التي شهدتها قديما وحديثا، ولضخامة ما مر بها من حضارات وتجارب سياسية لم يقف تأثيرها على الداخل المصري فقط، وإنما امتد لمختلف أرجاء المنطقة العربية، بل والدولية أحيانا.
الكاتب والباحث المصري محمد بدر الدين، يعيد فتح التاريخ الحديث والمعاصر لمصر، من خلال قراءة خاصة بـ "عربي21"، لكتاب المؤرخ شحاتة عيسى إبراهيم: "عشرة من عظماء الوطنية في مصر ـ في العصر الحديث"، الذي صدرت طبعته الثانية عن الهيئة المصرية العامة للكتاب ـ الطبعة الثانية 2019، ويسلط الضوء على عشر من الشخصيات المصرية الفاعلة في التاريخ المصري تنتمي لعوالم فكرية وسياسية متباينة، وأحيانا متناقضة.
كما سيلاحظ القارئ اختلافا كبيرا ليس فقط في الحقائق والقراءات، وإنما أيضا في زوايا النظر لعهد عبد الناصر، بين تلك التي قدمها الكاتب والباحث الفلسطيني عبد القادر ياسين، في قراءته لكتاب "شهادتي على عصر عبد الناصر.. سنوات الانتصار والانكسار"، للكاتب والإعلامي المصري صلاح منتصر، والتي نشرناها هنا في "عربي21"، في اليومين الماضيين، وبين هذه التي يعرضها اليوم محمد بدر الدين.
لم يستسلم أهله للغزاة
يقسم المؤلف كتابه إلى مقدمة وعشرة فصول، يتناول في كل منها، بحثه ورؤيته التاريخية السياسية، شخصية وطنية متميزة ممن يصفهم (بعظماء الوطنية في مصر في العصر الحديث)، هم على التوالي وبالترتيب التاريخي لظهورها ودورها التاريخي: (السيد محمد كريم ـ السيد عمر مكرم ـ الشيخ حسن طوبار ـ أحمد عرابي ـ عبد الله النديم ـ الشيخ محمد عبده ـ مصطفى كامل ـ محمد فريد ـ سعد زغلول ـ جمال عبد الناصر).
وفي مقدمته يقول مؤلف الكتاب متحدثا عن مصر: "ليس ذنب بلد من البلاد أن يكون مطمع الطامعين، فهذه شهادة له بتفوقه وامتيازه، وإنما العيب أن يستكين أهله للغزاة، وأن يستسلموا للقراصنة الغاصبين، ومصر ـ والحمد لله ـ في جميع عصور التاريخ لم تستكن لطامع ولم تستسلم، بل وقفت كالطود الشامخ وردت البغاة على أعقابهم. من هنا زخر تاريخ مصر بالأبطال المجاهدين وبالأبناء البررة المناضلين، الذين ناضلوا بكل ما أوتوا من جهد وقوة في سبيل حريته وكرامته، فسجل التاريخ أسماءهم في سجل الخالدين".
وأضاف: "الكتاب، إذ يقدم للشباب بعض الأبطال المجاهدين ليحفز هممهم ويحرضهم على العمل البناء الذي يرفع من شأن الوطن، لا يغمط حق أبطال آخرين لم يبغوا من وراء جهادهم سوى وجه الله ووجه الوطن وأبلوا أحسن البلاء".
وكما يذكر بحق الكاتب والباحث محمد الشافعي في تقديمه المدقق للكتاب: "لم يترك المؤرخ شحاتة إبراهيم أي معلومة تخدم بحثه إلا وقدمها... مما جعل كتابه أقرب إلى فكرة (الموسوعة)".
وأضاف، "إن المؤلف امتلك كل أدوات موضوعية المؤرخ، لكن دون أن يمنعه حرصه على الموضوعية والحياد ما أمكنه ذلك، من (انحياز العاشق)... حيث يؤكد كل سطر في هذا الكتاب: مدى عشق الباحث والمؤرخ لمصر ولمراحل النضال المهمة التي شهدها عصرنا الحديث، وأعطت هذه القامات العالية".
بداية من محمد كريم الذي رفض الاستسلام وقرر مقاومة الحملة الفرنسية رغم يقينه "بفارق القوة"، وبأن مقاومته لن تمنع هذه الحملة من احتلال مصر، إلا أن ضميره الوطني جعلة يقاوم حتى تم إعدامه.
أما السيد عمر مكرم نقيب الأشراف فقد قاوم الحملة الفرنسية في ثورتي القاهرة الأولى والثانية، ثم مهد الطريق أمام محمد علي ليتولى حكم مصر، ولكنه لم يحصل إلا على جزاء (سنمار)، حيث نفاه محمد علي خارخ القاهرة لسنوات طويلة.
أما شيخ الصيادين حسن طوبار، فقد قاد المقاومة ضد الفرنسيين في منطقة الدقهلية وخاصة بحيرة المنزلة، وأنزل بهم خسائر كبيرة.
فالزعيم أحمد عرابي الذي ظلم حيا وبعد رحيله، واجه الإنجليز بشجاعة هائلة، ولكن الخيانات الكثيرة التي تعرض لها هزمته... ولم يحصل عرابي على حقه التاريخي إلا على يد ثورة يوليو، بقيادة جمال عبد الناصر.
ويقدم الكتاب الأديب والثائر عبد الله النديم خطيب الثورة العرابية، التي كانت كلماته وقودا للمقاومة، فظل هاربا ومطاردا لتسع سنوات بعد الاحتلال البريطاني لمصر في عام 1882، ثم القبض عليه بخيانة أيضا.
أما رائد التنوير محمد عبده، فقد كان محاربا على جبهتين، الأولى مواجهة ظلامية بعض الدعاة، والثانية مقاومة استبداد الحكام والمحتلين.
ويحتل الزعيم الوطني مصطفى كامل مكانة سامقة في تاريخنا الوطني، ولسوف يظل عطاؤه الوطني نبراسا لكل شباب هذه الأمة.
أما الزعيم الوطني محمد فريد فقد ناضل بكل القوة والجسارة على كل الجبهات، من أجل استقلال مصر، وتعرض لظلم كبير ومؤلم من كل الجبهات ـ أو الجهات ـ أيضا، حتى توفى في عام 1919، منفيا ومفلسا في الغربة، (ولم يفكر سعد زغلول في نقل جثمانه إلى مصر ـ وهذا بعض نقد الكتاب له ـ حتى قام بذلك واحد من المصريين على نفقته الخاصة، وبعد ثورة يوليو تم نقل جثمانه إلى جوار رفيق كفاحه مصطفى كامل).
أما سعد زغلول، فعلى الرغم من أية تحفظات أو مؤاخذات، فهو زعيم يحتل مكانة مهمة في مسيرة النضال الوطني، إذ قاد هذا النضال بقوة خاصة بداية من ثورة 1919 وحتى رحيله.
ويختتم المؤلف كتابه بالحديث عن الزعيم جمال عبد الناصر
ونركز بقية سطورنا على هذا الفصل، لأنه الفصل "الجديد" في الكتاب، ونقول "الجديد" لأنه كان الفصل الوحيد "الممنوع"!.
إنه الفصل الذي "أعاق" نشر الكتاب في طبعته القديمة، وكاد يمنع نشره ككل، إذ كان تحريض وتعبئة نظام السادات ومناخاته ضد عبد الناصر وعصره، حائلا دون نشر نص ينصف قائد ثورة يوليو، حتى وإن كان برصانة مؤرخ وباحث مثل شحاتة إبراهيم، يستند إلى حقائق ووقائع ووثائق.
ويحقق كاتب التقديم الأستاذ الشافعي في هذه الواقعة:
انتهى المؤلف من هذا الكتاب المهم في منتصف السبعينيات من القرن الماضي... ودفع به للنشر في هيئة الكتاب، ولكن الكتاب رغم أهميته ظل (مركونا) في (أدراج المسؤولين)... من دون أن يعرف الرجل أي أسباب لعدم النشر... إلى أن جاء من يهمس في أذن المؤلف ناصحا له بأن يحذف الفصل الأخير من الكتاب، الذي يتحدث عن الزعيم جمال عبد الناصر. كان عبد الناصر ومازال يمثل للبعض رعبا حقيقيا بحجم إنجازاته، وانحيازه "للغلابة والبسطاء".
المهم، ذهب الأستاذ شحاتة إبراهيم إلى زوج ابنته د. حسين عيد ـ وكان يتولى وقتئذ منصب رئيس مجلس إدارة الشركة القومية للتوزيع والنشر ـ وأخبره بما يحدث... فوافق الرجل على اقتراح (الناصح الأمين) ليتم الإفراج عن هذا الكتاب، ولكن بعد حذف الفصل الأخير، وقد أحسنت الهيئة العامة للكتاب بتصديها لإعادة طباعة هذا الكتاب المهم في صورته الكاملة (عام 2019).
***
بين ما يذكره المؤلف في هذا الفصل عن عبد الناصر وعصره وعمله ـ الذي ينشر لأول مرة ـ أنه بالوقائع وبالوثائق: "فوجئت مخابرات بريطانيا التي تحتل مصر، ومخابرات الولايات المتحدة الأمريكية، بقيام ثورة يوليو 1952، ولم تكونا تعلمان بأية خطوة من خطواتها قبل نشوبها، ولذلك لم تكن لديهما فرصة للعمل ضدها، أو اتخاذ أي إجراء لإحباطها".(ص 359).
وأضاف: "حرصت ثورة 23 يوليو بعد قيامها، على أن تعلن باستمرار، أن أهم أهدافها هو الجلاء الناجز، الذي لا يقيده أي شرط، ولا يربط مصر بأية أحلاف، ولا يجرها إلى أي دفاع مشترك. وقد توالت تصريحات جمال عبد الناصر في ذلك في خطبه وأحاديثه إلى محرري الصحف العالمية والمحلية.
ومن أقوى تصريحاته في هذا الشأن، قوله في حفل افتتاح مركز هيئة التحرير بشبين الكوم في 23 من شباط / فبراير عام 1953:
"إن الشعوب التي تساوم المستعمر على حريتها، توقع في نفس الوقت، وثيقة عبوديتها. لذلك فإن أول أهدافنا هو الجلاء بدون قيد ولا شروط. إننا نعلنها عالية مدوية: يجب أن يحمل الاحتلال عصاه على كاهله، ويرحل أو يقاتل حتى الموت، دفاعا عن وجوده". (ص 368).
فوجئت مخابرات بريطانيا التي تحتل مصر، ومخابرات الولايات المتحدة الأمريكية، بقيام ثورة يوليو 1952، ولم تكونا تعلمان بأية خطوة من خطواتها قبل نشوبها، ولذلك لم تكن لديهما فرصة للعمل ضدها، أو اتخاذ أي إجراء لإحباطها
وواصلت جموع الشعب المصري وثورته وقائدها الشاب، الكفاح من أجل الجلاء، في معركة مجيدة (مباحثات وحرب مقاومة ـ عمليات فدائية في آن) يرصد الكتاب وقائعها وتفاصيلها، حتى يصل إلى تسجيل (أهم نصوص اتفاقية الجلاء عام 1954)، ليكتب بعدها تحت عنوان "بشرى الجلاء": "... وزف بطل الجلاء جمال عبد الناصر بشرى الجلاء إلى مواطنيه في 27 يوليو 1954 في بيان يفيض حمدا لله، وثقة به، واعتزازا بالوطن والمواطنين".
مما قال فيه جمال عبد الناصر:
"أيها المواطنون... إنني أسرح بخواطري في هذه اللحظة المجيدة، عبر أسوار الحياة، إلى الذين جاهدوا من أجل هذا اليوم، ولم يمتد بهم العمر ليعيشوه، أسرح بخواطري إلى الرحبات المقدسة، التي تعيش فيها أرواحهم الخالدة، ونشعر أنهم يتابعون كل ما فعلنا، كما تابعنا نحن كل ما فعلوه، وحملنا الأمانة بعدهم، ورفعنا المشاعل على الطريق... إنني أتوجه إليهم بقلب شعب، وأتجه إليهم بوفاء جيل، إليهم جميعا، الزعماء الذين كافحوا، أحمد عرابي، ومصطفى كامل، ومحمد فريد، وسعد زغلول، والشباب الذين باعوا أرواحهم للفداء، على كل بقعة من ثرى الوطن، أتجه إليهم بقلب شعب وبوفاء جيل، وأقول لهم: (سوف نمضي على الطريق، لن نضعف، ولن نتخاذل، ولن ننسى الأمانة التي حملناها، ولا الواجب الوطني الذي عاهدنا الله على أن نقوم به).
وفي 18 حزيران / يونيو عام 1956، رفع جمال عبد الناصر العلم المصري، على مبنى البحرية في بورسعيد، ولذلك فقد اتخذ هذا اليوم، عيدا للجلاء، وهو أيضا عيد الجمهورية، إذ إنها أعلنت في 18 حزيران / يونيو عام 1953". (ص 374).
ويتناول الكتاب بعد ذلك مفصلا محللا، ومدققا موثقا، مراحل المسيرة: (مؤتمر باندونج بأندونسيا 1955 ـ تأميم قناة السويس ـ حرب السويس 1956 ـ العدوان الثلاثي والمقاومة المصرية والعربية والإنذار الروسي، وتوكيد الاستقلال والحق المصري في القناة في نهاية المطاف بانتصار مصري كامل ـ القوانين الاشتراكية.. قوانين تموز / يوليو 1961 ـ السد العالي ـ الانتماء العربي والقومية العربية والدوائر الثلاث في كتاب عبد الناصر "فلسفة الثورة" ـ العدوان الصهيو ـ أمريكي في 5 حزيران / يونيو 1967 وإعادة عبد الناصر بناء الجيش على أسس جديدة وشنه حرب الاستنزاف الطويلة ضد العدو كي تعقبها معركة وجولة استرداد الأرض والعبور).
وأخيرا تحت عنوان "نقد أعمال جمال عبد الناصر"، يرصد المؤلف أهم ما وجه لثورة تموز / يوليو وقائدها من انتقاد أو مؤاخذات، وراح يناقشها مناقشة موضوعية هادئة.
وكان ممن قدم المؤلف سيرتهم ومسيرتهم، بموضوعية وإنصاف، هؤلاء الزعماء الذين ذكرهم قائد ثورة تموز / يوليو، يوم تحقيق جلاء الاحتلال البريطاني عن أرض الكنانة، المنتظر منذ قرابة ثلاثة أرباع قرن من الزمان، قائلا، في لحظة الجلاء المجيدة وموقف الاستقلال وانتصار الكفاح الطويل للحركة الوطنية المصرية:
"أسرح بخواطري إلى الرحبات المقدسة التي تعيش فيها أرواحهم الخالدة، ونشعر أنهم يتابعون كل ما فعلنا، كما تابعنا كل ما فعلوه، وحملنا الأمانة بعدهم، ورفعنا المشاعل على الطريق... إنني أتوجه إليهم بقلب شعب، وأتجه إليهم بوفاء جيل، إليهم جميعا، الزعماء الذين كافحوا..
أحمد عرابي
ومصطفى كامل
ومحمد فريد
وسعد زغلول
والشباب الذين باعوا أرواحهم للفداء، على كل بقعة من ثرى الوطن. أتجه إليهم بقلب شعب وبوفاء جيل، وأقول لهم: (سوف نمضي على الطريق، لن نضعف، ولن نتخاذل، ولن ننسى الأمانة التي حملناها، ولا الواجب الوطني الذي عاهدنا الله على أن نقوم به)".
***
وبعد، الكاتب شحاتة عيسى إبراهيم (1900 ـ 1978) أحد الذين انشغلوا بالبحث في تاريخ مصر الحديث، والمهتمين بالحركة الوطنية المصرية على مدار تاريخها. وفضلا عن مشاركاته في وضع الكتب التعليمية، أصدر قبل هذا الكتاب: "القاهرة" عام 1958، وأعيد طبعه مرتين في عامي 1999، 2009. وأيضا مؤلفه القيم: "الكتاب الأسود للاستعمار البريطاني في مصر"، الذي صدر عام 1966، وأعيد طبعه 2015.
مصر في عهد عبد الناصر.. شهادة تاريخية (2من2)
الاستشراق المتأسلم في فرنسا.. خبايا حملة نابليون على مصر
كيف تُحوّل الشعبوية مسار الديمقراطية؟ قراءة في كتاب