تفاجأ الكثيرون بالجهد المشكور الذي قامت به الإمارات لإرسال المساعدات الطبية الطارئة إلى إيران في خضم وباء كوفيد 19 وخاصة وهم يتذكرون كم كانت لغة خطاب أبوظبي معادية لجارتها الشمالية.
فلسنوات منذ 2010 قادت أبوظبي الجهود التي بذلت لإقامة شبكة إعلام (أو تضليل) لإقناع صناع السياسة في واشنطن بتبني موقف أشد تجاه الجمهورية الإسلامية.
ولكن مع تصاعد التوتر في الخليج منذ انسحاب الولايات المتحدة من صفقة النووي مع إيران، بات واضحاً بشكل متزايد لدولة الإمارات العربية المتحدة أنها لا يمكنها الاعتماد على واشنطن حتى تقاتل إيران لآخر جندي أمريكي.
صمت يصم الآذان
ساد واشنطن صمت يصم الآذان في سبتمبر / أيلول الماضي حينما تعرضت مرافق النفط السعودية في أبقيق وخريس لهجمات حُملت إيرانحينها المسؤولية عنها. وذلك ما جعل أبوظبي والرياض تخلصان إلى أن احتواء إيران ما عاد يمكن تحقيقه بوسائل عسكرية – على الأقل ليس بدون قدرات واشنطن وإرادتها السياسية.
وعلي مدى العام الماضي، تغيرت بشكل ملحوظ استراتيجية أبوظبي للتعامل مع إيران، فبينما تحافظ على وجه يبدو منسجماً مع استراتيجية الولايات المتحدة الفاشلة تجاه إيران، تقوم في نفس الوقت بالبحث عن موطئ قدم في الشرق لتوازن اعتمادها الزائد على بيت أبيض لم يعد له مخالب ويبدو في حالة من الارتباك الشديد إذ يقود قوة عظمى متهالكة.
في مثل هذا السياق لا بد من فهم علاقة الإمارات المتحدة المعقدة، وأحياناً التي تعاني من الانفصام، مع إيران، وهي علاقة تبدو بشكل متزايد كما لو أنها تتبع المثل القائل "إذا كنت لا تستطيع التغلب عليهم فلتصادقهم."
في مطلع الألفية، انضمت الإمارات العربية المتحدة إلى المملكة العربية السعودية في اعتبار إيران التهديد الأكبر الذي يواجه المنطقة، فركزت كثيراً من قراراتها الخاصة بالمشتريات العسكرية على تطوير أنظمة دفاع صاروخية قوية لمواجهة إيران.
وفي أوج تقارب إدارة أوباما مع الجمهورية الإسلامية، راهنت أبوظبي على سياستها الهادفة إلى تحقيق الاكتفاء الذاتي عسكرياً في مواجهة ما اعتبرته الوجود الإيراني المتمدد في المنطقة.
بل بلغ الأمر بأبوظبي أن تسعى لإقناع الصين بالتخلي عن علاقاتها التجارية المتنامية مع إيران – كل هذا كان يجري بينما كانت الإمارات الأخرى في شمال البلاد تنتهج سياسة أكثر تصالحاً مع إيران.
خذ دبي على سبيل المثال، المركز المالي والتجاري لدولة الإمارات العربية المتحدة، التي كانت أكبر المستفيدين من تجارة الإمارات مع إيران والبالغة 19 مليار دولار، ولم يكن لها مصلحة في قطع ارتباطاتها مع طهران. وكانت الشركات التي تتخذ لنفسها مقراً في دبي وفي الإمارات الشمالية منهمكة في المساعدة في تهريب النفط من إيران إلى الخارج لكي تتجاوز العقوبات التي تفرضها الولايات المتحدة عليها.
طموحات عالمية
تسارع تطور سياسة الإمارات العربية المتحدة الغامضة تجاه إيران مع تنامي الطموحات المحلية والإقليمية بل والعالمية للنخبة الحاكمة في أبوظبي. ثم جاء الربيع العربي وصعود المجتمع المدني المستقل، بما كان يحمله من إمكانيات للإطاحة بالأنظمة القديمة، ليعيد ترتيب أولويات التهديدات التي تواجه أمن النظام في عاصمة الإمارات.
أدرك ولي عهد أبوظبي محمد بن زايد أن التطهير الذي كانت تقوم به الثورة المضادة، والذي أتاح الفرصة أمام الإمارات لتتحول إلى دولة رقابة، يمكن أن يصدر إلى أجزاء أخرى من منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا ما بعد 2013، بفضل الفراغ الذي أوجده الانسحاب الغربي وانهماك قطر في حساب الخسائر التي تكبدتها.
إن الدور الأساسي الذي لعبته الإمارات العربية المتحدة في الإطاحة بالرئيس المصري محمد مرسي عام 2013 وفي مساعدة جنرال الحرب خليفة حفتر على اغتصاب العملية السياسية في ليبيا منذ عام 2014، هو الذي منح محمد بن زايد الثقة بأن أبوظبي تملك القدرة على أن تضرب من هو أثقل منها وزناً في سبيل بناء امبراطورية تجارية إماراتية يسندها محور سلطوي يستجيب لأوامرها. في هذه الأثناء بدأت إيران، رغم الإحساس بأنها مزعجة في بعض الأوقات، تختفي شيئاً فشيئاً من الصورة كمصدر تهديد للمشروع الإماراتي.
وبينما تمضي أبوظبي في تعزيز سلطانها على المنظومة الفيدرالية المكونة من سبع إمارات، يمكنها استخدام ورقة إيران من أجل تطويع الإمارات الشمالية وضمان انضباطها، وعلى رأسها دبي.
ومن هنا فإن تضييق الخناق على النشاطات النفطية غير المشروعة مع إيران أو الحيلولة دون غسيل الأموال الإيرانية من خلال دبي يشكل وسيلة لإرضاء إدارة ترامب بقدر ما يعتبر أداة لقص أجنحة أي طموحات تحدث دبي أو الشارقة أو رأس الخيمة نفسها بها رجاء الاحتفاظ بعلاقة مستقلة مع الجمهورية الإسلامية.
كما يمكن لعب الورقة الإيرانية في واشنطن لدعم سردية أبوظبي كحليف يمكن الوثوق به في دعم سياسة "الحد الأقصى من الضغط" التي تنتهجها إدارة ترامب. ما من شك في أن لغة الخطاب المعادية لإيران التي تتحدث بها أبوظبي هي التي أبقت على واشنطن منشغلة، الأمر الذي حفز الولايات المتحدة على غض الطرف عن الانتهاكات الإماراتية للقانون الدولي في ليبيا وعن جرائم الحرب التي ترتكبها في اليمن.
الحد الأقصى من الضغط
ولكن في عام 2019، ومع تزيد المخاطر بتصعيد الولايات المتحدة لحملتها الهادفة إلى ممارسة حد أقصى من الضغط على إيران عسكرياً، أدركت أبوظبي أن موازنة المخاوف إزاء الأمن القومي مع السياسة المختلة للولايات المتحدة تجاه إيران سيكون بمثابة المشي الخطير على حبل مشدود.
ولهذا، بينما كانت اسمياً تدعم الجهود الأمريكية لاحتواء النشاطات الإيرانية في المنطقة، كانت هناك دلائل متزايدة على حدوث تواصل مباشر مع إيران سعياً للتهدئة وتفادي التصعيد.
حقيقة أن الإمارات العربية المتحدة توقفت منذ زمن طويل عن توجيه أصابع الاتهام لإيران حينما تعرضت ناقلات النفط للهجوم أمام شواطئ الفجيرة العام الماضي إنما تدل على إعادة تموضع استراتيجي من قبل أبوظبي مقابل إيران، من المواجهة إلى المشاركة.
وفي اليمن، حيث كان يعتقد بأن الإمارات العربية المتحدة تقاتل ضد الحوثيين، وكلاء إيران، عادت أبوظبي ووجهت تركيزها نحو ضمان الوصول إلى المحيط الهندي عبر وكيلها هي، المجلس الانتقالي الجنوبي – الأمر الذي يضر بسياسة المملكة العربية السعودية في اليمن أكثر مما يضر بسياسة إيران في اليمن.
في هذه الأثناء، يأتي التجاوب النشط من قبل الإمارات العربية المتحدة تجاه وباء كوفيد 19 ليشكل أداة بيد أبوظبي لمد نفوذها في الخارج. ومن هنا جاءت مساعدتها لإيران على خلفية رغبة أبوظبي في تعزيز دورها وبناء تحالفات وشراكات لتعزيز محورها السلطوي.
ومن خلال لعب دور المتحاور الأساسي مع المحور الثلاثي المشكل من روسيا والصين وإيران، تأمل أبوظبي في استغلال أزمة كوفيد 19 للترويج لنفسها في لعبة القوى الكبرى في عالم ما بعد الولايات المتحدة.
ومع تنامي علاقاتها بدولة بوتين العميقة وبقلب السلطة في الصين، يأتي دعم أبوظبي لإيران في خضم أزمة فيروس كورونا كجزء من توجهها الجديد نحو الشرق في الوقت الذي تجبر فيه الولايات المتحدة وأوروبا بسبب كوفيد 19 على التخلي عن النفوذ الخشن والناعم معاً حول العالم.
عن موقع (ميدل ايست آي) البريطاني ترجمة "عربي21"
لقراءة النص الأصلي اضغط (هنا)