لا يختلف اثنان في مهد ربيع الشعوب بأن السيد قيس سعيّد رئيس منتخب ديمقراطيا فاز بأغلبية شعبية ساحقة في الانتخابات الرئاسية الأخيرة. ولا يتجادل اثنان في نزاهة الرجل وفي صدق نواياه ونظافة يده وإيمانه العميق بالثورة وشعاراتها وتضحيات الشهداء في سبيل المكسب العظيم الذي ننعم به اليوم.
ولا يتخاصم ثلاثة في أن التجربة التونسية إنجاز عظيم من أعظم ما صنعت شعوب الأمة في العصر الحديث رغم كل المطبات والمآخذ والانكسارات ورغم كل الصراعات والمشاحنات التي تمثل جزء مركزيا من التجربة الانتقالية نفسها. بل إنها تعتبر عصب الانتقال الديمقراطي نفسه وشرطه الذي لا مفرّ منه.
يمثل هذا الحكم قراءة عمودية عُلويّة للمشهد التونسي أي أنها تحكُم على المساحة الكبرى لحركة الفواعل السياسية وترصد مسافات التقدّم على مسار المنجز الثوري ولا تنصبُّ على تفاصيل الحركة وجزئياتها. لكنّ هذا المشهد هو مشهد متغير بسبب تغير السياق الذي يحيط به ويتكوّن منه رغم الثبات النسبي للمكونات المركزية في داخله. رئاسة الجمهورية أو رئيس الجمهورية هو أحد أهم هذه المكونات وأكثرها حساسية وحضورا سواء على المستوى الشعبي القاعدي أو على مستوى تمثيل الدولة وتمثيل المسار الانتقالي.
الرئاسة وأصول الحكم
نجحت التجربة في تونس على مستويين. أما الأول فيتمثل في الحدّ من سلطات رئيس الجمهورية وتقييد صلاحياته بشكل ألغى السلطة القديمة التي كان الرئيس يتمتع بها خلال حكم بورقيبة وبن علي وهو الأمر الذي تسبب في تطور منصب الرئيس إلى منصّة للحكم الفردي المطلق. هذا التطوّر كان السبب الأساسي في موت الحياة السياسية وفي انعدام قوى معدّلة قادرة على إحداث التوازن الضروري بين السلطات داخل الدولة كما يعتبر أيضا أحد أهم أسباب الخراب الذي حلّ بالبلاد طيلة أكثر من نصف قرن من الزمان.
أما النجاح الثاني فيتمثل في نهاية أسطورة الرئيس المعجزة في المخيال الجمعي القاعدي. كانت صورة الرئيس إلى وقت قصير مرتبطة بالسلطة المطلقة وبكائن هلامي خارق يقع فوق البشر، حيث نجحت الآلة الإعلامية للنظام في جعل بورقيبة زعيما أوحد وبطلا خارقا و"مجاهدا أكبر" جلب الاستقلال وحّرر البلاد ثم حرّر المرأة وصنع ما يسميه هو "الأمة التونسية" التي خطّها من "هباءات بشرية" كما يقول. أما خلَفُه بن علي فقد كان امتدادا طبيعيا للبورقيبية خرج من رحمها واستعمل آلياتها واستعان بإرثها وبأدواتها فقد أبقى على نفس الصورة وجعل من نفسه "رجل التحوّل المبارك" و"صانع التغيير" وبطلا لا يشق له غبار.
سقطت هذه الأساطير بعد الثورة الشعبية المباركة وبعد أن انكشف الغطاء عن وكيلين استعماريين لم يكن دورهما إلا تصفية إرث المناضلين والمقاومين وبناء دولة الاستبداد وحكم الفرد الواحد. أفرزت الثورة بعد ذلك عددا من الرؤساء تباين أداؤهم بتباين السياق الذي وصلوا فيه إلى قصر قرطاج لكنهم ظلوا مكبلين بنص الدستور الذي حكم على المؤسسة الرئاسية بالبقاء في سلطة محدودة جدا تمنعها من التغوّل والانتفاخ.
اليوم صار الرئيس أو يكاد موظفا كبقية الموظفين يمارس مهامه الدستورية في إطار القانون رغم كل محاولات المستشارين والحاشية الظفر بأكبر مساحات القرار السياسي. كانت وظيفة المستشارين منذ الثورة أخطر الوظائف السياسية في مؤسسة الرئاسة وأشدها تأثيرا على خيارات الرئيس وخطاباته بل إنّ من المستشارين من أجهض تجربة الرئيس في الحكم وأنهى مساره السياسي وحكم على مشروعه بالموت وأخرجه من الباب الصغير.
الرئيس الجديد
لا يزال الرئيس الجديد يتلمس طريقه نحو الممارسة الفعلية لصلاحياته وليست الأخطاء التي ارتكبتها المؤسسة سواء على مستوى موقفها من بقية الأحزاب السياسية والقوى الحزبية في البلاد إلا خير دليل على ذلك خاصة خلال صراع تشكيل الحكومة الأخير.
الأصل في الرئاسة أن تكون على مسافة واحدة من كل الأحزاب وأن تعمل بالتنسيق التام مع رئاسة البرلمان ورئاسة الحكومة بشكل متوازن ومتساو، وهو ما لم يحدث إلى حدّ الآن بسبب سطوة المستشارين. الأصل في الرئاسة أن لا تكون ملونة أيديولوجيا لأنها مؤسسة فوق المؤسسات بل هي معدِّلة لكامل المشهد السياسي المهتزّ. لكنها اليوم تصطبغ بلون أيديولوجي خطير قد يتسبب في انفصالها عن الشعارات التي أطلقها الرئيس وعن مطلب توحيد القوى الوطنية الذي تحتاجه المرحلة.
محاربة الفساد هي الحرب الحقيقية في تونس وكل ما سواها إنما يُعتبر ثانويا أو مؤقتا. فالفساد السياسي والفساد الاقتصادي وتمرّد الإعلام والنقابات العمالية يمثل الوجه المفضوح لتمادي شبكات النهب والفساد في تدمير الدولة والاقتصاد والمجتمع.
إن طغيان اللون القومي واليساري على الفريق الاستشاري الذي يظهر عبر الزيارات التي عقدها الرئيس بما في ذلك الشخصيات المحسوبة على الثورات المضادة وعلى المنظومات العسكرية العربية يؤكد أنّ الرئاسة التي من المفترض أن لا تكون ملونّة صارت ذات لون سياسي واحد.
يبقى من الصعب اليوم الحكم على أداء الرئيس ومؤسسة الرئاسة بشكل نهائي مادامت مدّة حكمه لم تنته بعد لكن الشعور العام لدى كثيرين ممن انتخبوه وصوتوا له يتسم ببعض خيبة الأمل من الأداء الباهت. كما أن الصراع الخفي الذي يدور في أروقة القصر بين المستشارين بعد استقالة المستشار العسكري واستقالة مدير الديوان السابق تؤكد أن لونا سياسيا ما بصدد الهيمنة على مؤسسة الرئاسة.
التوازن المطلوب
لكن من جهة أخرى يواجه الرئيس الجديد وضعا داخليا وخارجيا شديد التعقيد وشديد الحساسية مما يفرض عليه تحقيق توازن صعب بين الشعارات التي أطلقها خلال حملته الانتخابية والوعود المصاحبة لها وبين الممكن سياسيا. صحيح أن شعب تونس والكتلة الانتخابية التي صوتت له إنما فعلت ذلك في جزء كبير منها دفعا لضرر المرشح الثاني المحسوب علنا على الدولة العميقة ومنظومة الفساد المصاحبة لها. صحيح أيضا أن هذه الكتلة لا تنتظر حلولا سحرية لأزمة داخلية عميقة وأزمة دولية أعمق لكنها تطالب بالحدّ الأدنى من القدرة على الإنجاز والفعل من داخل الصلاحيات التي يملكها رئيس الجمهورية.
محاربة الفساد هي الحرب الحقيقية في تونس وكل ما سواها إنما يُعتبر ثانويا أو مؤقتا. فالفساد السياسي والفساد الاقتصادي وتمرّد الإعلام والنقابات العمالية يمثل الوجه المفضوح لتمادي شبكات النهب والفساد في تدمير الدولة والاقتصاد والمجتمع. يملك الرئيس في هذا المجال القدرة على التنسيق مع البرلمان ومع رئاسة الحكومة من أجل تفعيل الآليات الموجودة لمواجهة هذا السرطان الذي دمّر دولا وأطاح بمجتمعات بأكملها. أما الاستعراضات الشعبوية فإنها لن تزيد إلا في نزيف الرصيد الشعبي للرئاسة بعد المشاهد الأخيرة في تونس وما خلقته من استهجان وردود فعل ساخرة بين قطاع كبير من التونسيين.
تونس اليوم في أمسّ الحاجة إلى عقلية توافقية قادرة على المحافظة على روح الثورة عبر محاربة الفساد ومراقبة مصادر الأموال وطرق صرفها وتفعيل آليات الرقابة والمحاسبة.
يملك الرئيس سلطات واسعة في مجال السياسة الخارجية التي تعاني منذ سنوات من شلل كبير بعد أن نخرها سوس الفساد وتحولت السفارات والقنصليات إلى محميات للفساد وتبذير المال العام دون أدنى اعتبار لدورها في تأكيد إشعاع الدولة الخارجي ورعاية مصالح التونسيين.
لا تزال أمام الرئيس فرصة كبيرة من أجل تعديل دور المؤسسة وصورة الرئيس وإنجاز القليل من الشعارات التي رفعها قبل وصوله إلى قصر قرطاج. يُحسب للرئيس الراحل الباجي قايد السبسي أنه كان عبقريّ التوازنات الداخلية والخارجية رغم تقدمه في السنّ وأنه كان مهندس التوافق بين الكتل السياسية مع المحافظة على روح المسار الانتقالي رغم كل ماضيه ورغم كل الأخطاء التي ارتكبت.
تونس اليوم في أمسّ الحاجة إلى عقلية توافقية قادرة على المحافظة على روح الثورة عبر محاربة الفساد ومراقبة مصادر الأموال وطرق صرفها وتفعيل آليات الرقابة والمحاسبة. وهي من جهة أخرى مطالبة بتحسين القدرة على مسايرة التغيرات العالمية والتأقلم مع السياق الدولي دون المساس بالسياق الثوري ومكتسباته ومبادئه.
سيذكر التاريخ رئيس تونس غدا إما باعتباره رجلا قد حقق مكاسب انتقالية وأنجح منعرجا ثوريا خطيرا ـ وهذا ما نتمناه ويتمناه التونسيون له ـ وإما أن لا يذكره التاريخ إلا كخيال باهت مرّ ذات يوم على المشهد التونسي. وله وحده تحديد أي النموذجين سيتذكره به شعبه .
العراق ضحية الترتيبات المذهبية والعرقية والمحاصصة
تونس واندحار حفتر.. والمأزق الإماراتي