من المهم أن نؤكد أن النظر لمعنى السياسة هي من الأمور التي تتعلق بالعالم، ذلك أن أمر السياسة إنما يتعلق بالإنسان الفرد حتى يصل إلى دائرة الإنسان
الإنسانية؛ ومن ثم فإن السياسة مسكونة برؤية للإنسان؛ تقول لي كيف تنظر للإنسان أقول لك ما هي مواقفك، وما هي سياساتك.
كذلك من المهم أن نؤكد أن معاني السياسة لا تتعلق وحسب بظاهرة السلطة، ولكنها تمتد إلى تشكيل شبكة العلاقات الاجتماعية والإنسانية، وتحرك كل المعاني التي تتعلق بالإنسان قيمة ومغزى، فإن أزمة القيم هي من أهم الأزمات التي تواجهها البشرية بشأن مقولة السياسة ومنظومات العلاقات الدولية والنظام الدولي في بنياته وممارساته.
ومن هنا تكون طرح القضية التي تتعلق بأنسنة السياسة قضية جوهرية، وأستطيع أن أقول إن
كورونا قد أسهم إسهاما كبيرا في كشف ذلك العوار والخلل البنيوي في معنى السياسة وممارسات السياسيين، وأن هذا الأمر يؤثر في تشوه وتشوش الممارسات السياسية من جراء هذا التصور للإنسان، سواء ارتبط الأمر بنظرة عنصرية أو تطرق إلى نظرة مادية براجماتية للإنسان. هذا الأمر إنما يتطلب منا وبعد هذا الانكشاف الذي حركته الأحداث في أزمة كورونا إنما يفرض إعادة تعريف "السياسي"، مستندا إلى تغيير جوهري في النظر إلى الإنسان والإنسانية، والنظر إلى حال التفكير العنصري الذي يتمدد في البشرية من جراء هذه النظرة، ولا يباري انتشار
العنصرية إلا ذلك الانتشار الواسع لفيروس كورونا الذي ينتشر وينتقل في أرجاء المعمورة.
ومن المسائل التي تؤكد هذه النظرة الاختزالية للإنسان التي تورث خللا بنيويا هي المسألة التي تتعلق بمركزية الحضارة الغربية، التي فرضت قسرا أو طوعا رهبة أو رغبة كل مفاهيمها ورؤيتها للعالم وللحياة باعتبارها الحضارة الغالبة. وبدا ذلك في أشكال كثيرة تجلت في ظاهرة استعمارية خطيرة في زمن ما، واتضحت أيضا في استراتيجيات خطيرة للتوسع والتمدد على حساب الآخرين لتحقيق مصالح وتمكين قوتها في التعامل مع الآخرين.
وبدت هذه الحضارة في مركزيتها لا ترى العالم إلا بمنطق الغرب والبقية "The west and the rest"، ذلك أن هذا النظر الذي لا يرى الكون إلا من خلال الإنسانية الغربية وأن بقية الإنسانية فائض بشري؛ إنما تمثل في رؤى خطيرة تتعلق بهذه الحقبة الاستعمارية وشعارات الرجل الأبيض وإنهاض البشرية وتقدمها، حتى وصل ذلك إلى اقتصاد عالم الكلمات فسمي ذلك استعمارا، رغم أنه في حقيقة الأمر لم يكن إلا استخرابا واستدمارا.
وظلت السياسة مسكونة بهذه الرؤية التي تشكلها من مثلث القوة والمصلحة والعنصرية، فتحركت لتشكل سياساتها ضمن مسارات من الاستئثار والاحتكار، وحاول هؤلاء صياغة منظومة السياسة على قاعدة من المبدأ الداروني "البقاء للأصلح". والأصلح هنا لم يكن في حالتهم إلا الأقوى، وبدا الأمر لا يجد مكانا للضعفاء أو للفقراء، وبدت حركة السياسة ضمن ممارسات افتراس القوة وغطرستها مستمرة؛ ورأسمالية قادها التوحش ومبادئ برزت هنا أو هناك، ولكنها ظلت في التطبيق مسكونة بحالة عنصرية تفوح منها روائح كريهة من التعصب والتحكم.
نقول هذا وقد استطاع كورونا أن يؤكد تلك الحقيقة الكبرى، أن البقاء لا يكون إلا للجنس البشري جملة من دون تمييز أو استثناء. كتب كارل دويتش في مقدمة كتابه "تحليل العلاقات الدولية" قائلا: "تعد هذه المقدمة لدراسة العلاقات الدولية في العصر الحاضر بمثابة التقديم لفن وعلم بقاء الجنس البشري. فلو حدث أن تم القضاء على الحضارة والمدنية خلال الثلاثين عاما القادمة، فلن يكون السبب هو المجاعة أو الوباء، ولكن سيعود ذلك إلى السياسة الخارجية والعلاقات الدولية. فنحن نستطيع أن نعالج الجوع والأوبئة، ولكننا لا نستطيع حتى الآن أن نعالج قوة أسلحتنا وسلوكنا كدول قومية". وكأن تلك المقولة التي سكها "دويتش" في كتابه (فن الإبقاء على الجنس البشري) هي من القواعد التأسيسية والبديهية التي ظلت هذه السياسات العنصرية تعاكسها بشدة وتناقضها بقوة.
وقد أتى كورونا الذي لا يعرف تفرقة بين الأجناس، لا بين أبيض ولا أسود ولا بين غني أو فقير ولا بين ضعيف أو قوي. لقد طال الجميع جملة ليؤكد أن مصير البشرية والإنسانية واحد، وأن سفينة الأرض الكونية واحدة، وأن الإنقاذ لا يكون لها إلا جملة ولا يمكن بأي حال من الأحوال أن يكون لفئة على حساب أخرى، وإلا كان ذلك خرقا لسفينة الأرض وقوانين الفطرة والسنن التي تحكمها.
وربما في هذا المقام سنجد مثلا أن رؤية ترامب المسكونة بالقوة والمصلحة والعنصرية إنما تشكل على حد قول الدكتور المسيري؛ لحظة نماذجية، حتى أن هناك فئة كبيرة من النخب الولايات المتحدة الأمريكية لا تصف هذا الرجل بالشذوذ والاستثناء في رؤياه، ولكنها تصفه بالجنون والخروج عن حد الفطرة والعقل. وباتت هذه النظرة للإنسان في هذا التصور البراجماتي تحاول أن توازن ما بين حياة الإنسان وما بين مجرى الحياة الاقتصادية، فبات ترامب يتحدث في خطاب أقرب ما يكون إلى الهذيان ومتبعا ذات الأساليب التي يتبعها المستبدون في الدول المتخلفة، فيخرج أنصاره للتظاهر لتأييده، من دون أن يقيم وزنا لمعنى الإنسانية وقيمتها، في إطار ممارسات قميئة تتعلق بانتخابات رئاسية قادمة لا يرى إلا في الاقتصاد سندا له للمرور إلى فترة ثانية.
وفي الجانب الآخر سنرى هذا المنقلب الغادر يقوم أيضا باستخدام ذات المثلث من القوة الباطشة والمصلحة الآنية الأنانية والعنصرية القائمة على صناعة الكراهية، فإنه يمارس ذلك بكل طاقته ولا يقيم للإنسان وزنا.. ها هم العالقون بالنسبة له لا يساوون شيئا في ميزان الإنسانية أو الوطنية
المصرية، ما داموا لا يملكون مالا أو تلك التكاليف التي فرضها المنقلب لنقلهم ثم حجرهم.
في حقيقة الأمر أن هذه الحقارة العنصرية إنما تشكل معنى الوطنية لدى المنقلب، وقيمة الإنسان التي لا تقاس إلا بما عنده من مال وضمن مقولات "اللي معاه قرش يساوي قرش"، "واللي ممعوش ميلزموش"، "ادفع عشان تعدي".. نظرة فاقعة حتى ترك هؤلاء العالقين رغم أن طائرة ذهبت لتقلهم، لا لشيء سوى أنهم لم يتدبروا المبلغ المطلوب.
وفي ذروة ذلك، لا يزال المنقلب الغادر يمارس عفوه الكاذب فيُخرج 400 من السجون، معظمهم من المجرمين وتجار المخدرات، أما هؤلاء الذين يعارضونه ففي غياهب السجن مغيبون مهملون حتى يموت. إنها لحظات نماذجية فاضحة تعبر عن حال التعاطي مع السياسة ضمن هذه القواعد التي تنزع منها إنسانيتها، وتقصي هذه السياسة معنى الإنسانية والرحمة؛ مسكونة بالعنصرية والمصلحة المادية.
إنها في النهاية أزمة القيم الخطرة في مجال أنسنة السياسة التي تشكل حالة من النظر الفاسد، مثل البقاء للأقوى، فأراد كورونا أن ينبه إلى أن البقاء للجميع، وإلا فني الجميع؛ وأن المسائل التي تتعلق بهذا النظر الإنساني وقيمة الإنسان في ذاته وحياته ومعاشه إنما هي التي تشكل جوهر النظر لأنسنة السياسة وارتباطها بمنظومة قيم تؤسس على قاعدة من العدل والمساواة، وما ظل هذا النظام يحتفظ بمصادمته للفطرة ويمكّن لتشوهاته واختلالاته، فسيظل هذا النظام مسكونا بقابليات الخراب، لأن في ذلك ظلما للإنسان والإنسانية، و"الظلم مؤذن بخراب العمران" في معمار سياسات النظم الداخلية وفي منظومة العلاقات الدولية على حد سواء.
twitter.com/Saif_abdelfatah