مع تواصل نزيف الدم في سيناء، ومع توالي وصول جثامين شهداء القوات المسلحة إلى قراهم في الصعيد أو الدلتا أو أي مكان آخر (وكانت أحدث دفعة من عشرة عسكريين في 30 نيسان/ أبريل الجاري)، تتواصل أيضا الأسئلة: إلى متى يستمر هذا النزيف؟ وكيف لا يستطيع جيش وشرطة يمتلكان أحدث الأسلحة وتتوفر لهما كل الإمكانيات من هزيمة هذه المجموعات الإرهابية البدائية من ذوي "الشباشب" البالية؟ وكيف لأكثر من 41 كتيبة تضم 25 ألف مقاتل (تصريح للسيسي في كانون الثاني/ يناير 2017) لا تسطيع هزيمة ألف داعشي (وفقا لروايات النظام ذاته)؟
الخسائر المتوالية في سيناء تفرض علينا من منطلق وطني طرح هذه الأسئلة وغيرها، ولا ينبغي أن يرهبنا كلام السيسي "اسمعوا كلامي أنا بس ولا تسمعوا كلام أحد غيري"، ولا ينبغي أن ترهبنا أيضا ترسانة التشريعات القمعية التي تفرض الصوت الواحد، والرواية الرسمية الواحدة للأحداث (خاصة في سيناء) والتي يتبين في كثير من الأحيان أنها كاذبة ومضللة للشعب. فسيناء ليست ضيعة خاصة بالسيسي ورجاله، ولكنها جزء عزيز من أرض الوطن، وبوابته الشرقية، وأمنها وسلامتها مسؤولية كل الشعب وكل قواه الحية.
كم هي عزيزة علينا تلك الدماء للضباط والجنود التي تسيل في سيناء، وكذا دماء أهل سيناء الذين يقتلون من الجيش ومن تنظيم داعش في الوقت ذاته، وكم هي عزيزة علينا رمال سيناء أرض الفيروز، والتي شهدت العديد من الحروب العسكرية مع العدو الصهيوني، وكان آخرها حرب العاشر من رمضان السادس من أكتوبر التي تحل ذكراها اليوم، ثم الآن مع التنظيمات الإرهابية الداعشية، وكم هو عزيز علينا الأمن القومي لمصر والذي نفتديه بأرواحنا.. لكن ما يجري في سيناء على مدار السنوات الست الماضية فوق كل احتمال، ويثير من الأسئلة والشكوك أكثر ما يعطي من الإجابات.
يدافع أنصار النظام عن تلك الهزائم بأن الجيش النظامي ليس مؤهلا لحرب العصابات، وإذا كان الأمر صحيحا فلماذا لا تتوقف عمليات الجيش ويحل محلها مجموعات مقاتلة (عصابات وطنية) وقد عرض أهل سيناء القيام بهذه المهمة أكثر من مرة، وكانت إحداها خلال اجتماع رئيس المخابرات العامة محمد فريد تهامي مع شيوخ القبائل السيناوية في العام 2014، لكن تهامي رفض هذا العرض، مفضلا الحديث عن مؤامرات تحاك ضد مصر وفقا لتصريحات الناشط السيناوي مسعد أبوفجر (15 أيلول/ سبتمبر 2019).
كما يحاجج أنصار النظام بأن الجيوش الكبرى مثل الجيش الأمريكي تعرضت لهزائم على يد عصابات مسلحة، كما حدث في العراق وفي فيتنام من قبل، والحقيقة أن الجيش الأمريكي في الحالتين كان جيش احتلال يقاتل على غير أرضه، بينما الجيش المصري يقاتل على أرض سيناء التي قاتل من فوقها في عدة حروب سابقة ويعرف أدق التفاصيل لتضاريسها الجغرافية والبشرية والأمنية.. الخ.
ما يحدث على أرض سيناء هو كارثة قومية بكل المقاييس لا تقل عن هزيمة الجيش المصري وبقية الجيوش العربية في حرب 1948، مهما حاول النظام تزييف الواقع المرير، ومهما حاول الادعاء بتحقيق انتصارات يجسدها عبر مسلسلات وأفلام يدحضها الواقع.
وعلى كل حال، فإن هذا التزييف ليس وليد اليوم فقد كان جيش الاحتلال الصهيوني يحتل سيناء ومدن القناة في نكسة 1967 بينما يذيع النظام عبر الإذاعة والتلفزيون بيانات حول انتصاراته وقرب وصوله إلى تل أبيب، وقد صدق الشعب تلك الأكاذيب فخرج يهتف "يا أبو خالد يا حبيب بكرة (غدا) تدخل تل أبيب". وحتى في نكبة 1948 كانت البيانات العسكرية تشير إلى زحف الجيش المصري وسيطرته على معظم الأراضي الفلسطينية (وأنا أكتب هذا المقال طالعت قدرا صحيفة الأهرام منتصف أيار/ مايو 1948 تنشر هذا الغثاء وفقا لبيانات حربية). وقد أفاق الشعب على صدمة كبرى في الحالتين، سواء في 1948، أو في 1967، غير أن ضباطا وطنيين آلمتهم هزيمة الجيش عام 1948 فتحركوا للثأر لكرامتهم، وكرامة جيشهم، فأطاحوا بالملك فاروق والقيادات العسكرية والسياسية الفاسدة التي كانت سببا في تلك الهزيمة، وأعادوا تنظيم الجيش، وأمدوه بأسلحة حديثة، لكنهم هُزموا مجددا في 1967 للسبب ذاته، وهو انتشار الفساد بينهم واستئثارهم بالسلطة وقمع الحريات.
ليس هناك تفسير مقنع لاستمرار هذا النزيف في سيناء طيلة هذه السنوات، رغم أن السيسي جرد لها حملة شاملة وطلب استخدام كل القوة "الغاشمة" في شباط/ فبراير 2018، وحدد مدة ثلاثة أشهر لتنظيف سيناء من الإرهاب، وقد طالت المدة لستة أشهر ثم عام فعامين ولا تزال مستمرة. وهنا لا لوم على من يفهم أن النظام غير جاد في حربه للإرهاب في سيناء، وأنه حريص على بقائها (ولو في مستوى منخفض) حتى يستثمرها لإطالة أمد حكمه، وحتى يحافظ على تدفق الدعم الخارجي له باعتباره محاربا للإرهاب.
وإذا كانت أذرع النظام وأبواقه قد حملت الرئيس الشهيد محمد مرسي المسئولية عن مقتل الجنود في رمضان 2012، وقالت إحداهن "مش قد الشيلة متشيلش يا مرسي" (أي إذا لم تكن على قدر المسئولية فعليك أن تتخلى عنها)، فهذا ما ينطبق بحذافيره على السيسي الآن، فإذا لم يكن على قدر المسئولية، وإذا لم يكن قادرا على تطهير سيناء من هؤلاء الإرهابيين فعليه أن يرحل.
لم يستطع السيسي هزيمة داعش لكنه استطاع حبس الباحث والصحفي إسماعيل الإسكندراني، المتخصص في الشأن السيناوي والذي تمكن عبر عمله البحثي من إعداد دراسات علمية قوية عن الوضع في سيناء، وكان هو أول من كشف انضمام ضابط الصاعقة هشام عشماوي لتنظيم أنصار بيت المقدس. كما أنه (أي السيسي) تمكن من هزيمة "نيوتن" صاحب جريدة المصري اليوم، بعد أن دعا في سلسلة مقالات لوضع إداري خاص لسيناء، وقبل كل ذلك تمكن من هزيمة الشعب المصري والمحكمة الإدارية العليا في موقعة "تيران وصنافير".
بدلا من أن يتجه نظام السيسي إلى الوجهة الصحيحة لمحاربة الإرهاب الحقيقي في سيناء، وبدلا من القضاء على "الألف داعشي" هناك، فإنه يحرص على إبقاء سهامه موجهة ضد خصومه السياسيين، وخاصة جماعة الإخوان المسلمين، فيعمد لتحميلهم المسئولية عما يجري في سيناء (وليس داعش)، وينتج أفلاما ومسلسلات تتكلف مئات الملايين (من ميزانية تتسم بالعجز المزمن) لتشويه صورتهم، واعتبارهم الخطر الرئيسي عليه (وليس داعش أيضا)، بل وتقديم أي داعشي إعلاميا باعتباره عضوا بجماعة الإخوان (وليس بتنظيم داعش مجددا)، وفي هذا تضليل للشعب من ناحية، وتوجيه للأجهزة الأمنية في الطريق الخطأ بدلا من تعقب القتلة الحقيقيين.
للأسف فإن بقاء هذا النظام هو الذي يعطي المدد للإرهاب، وهو الذي يصنع البيئة المواتية لترعرعه وانتشاره بسبب سياسات القمع والبطش والتهجير لأهل سيناء، ولغيرهم من عموم المصريين، ولا حل لهذه المشكلة إلا بتغيير هذا النظام "الفاشل" ليحل محله نظام وطني ديمقراطي قادر على هزيمة الإرهاب، وليس هزيمة الشعب.
هدية النظام المصري لسيناء في عيدها القومي!
مستقبل المصالحة الوطنية في مصر
دعكم من السيسي والكفيل.. خاطبوا الشعب النبيل