مقالات مختارة

نظرية المؤامرة وسباق اللقاح

1300x600

في الوقت الذي يخوض فيه العالم حربا محمومة ضد فيروس «كورونا المستجد»، وتُكثف الجهود للتوصل إلى لقاح، تخرج علينا بعض نظريات المؤامرة التي تجد مروجين لها في مواقع التواصل الاجتماعي. أغرب ما شاهدته في هذا الإطار مقطع فيديو يزعم أن الجائحة مخطط دبرته نخبة دولية تريد التحكم في العالم والسيطرة على البشرية، وأن جائحة «كورونا» التي أصابت أكثر من 3.7 مليون إنسان حول العالم وقتلت نحو 258 ألفا، كانت فقط لإقناع الناس بقبول زرع شريحة إلكترونية دقيقة في أجسامهم تستخدم للتحكم الكامل فيهم وفي كل جوانب حياتهم.


هذه الشريحة المفترضة التي أطلق عليها اسم «آي دي 2020»، حسب المقطع، ستسجل فيها كل معلوماتك، سواء المعلومات الطبية أو البنكية، وفيها جهاز بثّ واستقبال على غرار شرائح الهواتف الجوالة، وستعمل بمثابة بطاقة بنكية لتتبع كل تحركاتك، ولجمع وتحليل المعلومات عن أي مرض أو خلل وإرسال المعلومات إلى مراكز العلاج. خلاصة نظرية المؤامرة التي يروّج لها الفيديو أنه من خلال الشريحة يمكن إرسال إشارات إلى دماغك والتحكم في أعصابك، وأن النخبة التي تقف وراء هذا المشروع تريد التحكم في البشرية والسيطرة على العالم وتحويل الإنسان إلى ما يشبه الروبوت.


المذهل أن هذه النظرية بكل جنوحها تجد لها صدى في بعض الأوساط من أناس يبدون مقتنعين بأن الجائحة عمل مدبر من النخبة التي تخطط سرا للتحكم في العالم وتوسيع مصالحها، أو من حكومات تستخدم الأمر لتنفيذ خطتها في إقناع الناس بقبول إنزال تطبيقات في هواتفهم الجوالة أو زرع شرائح إلكترونية تحت الجلد في اليد بهدف تتبع كل حركاتهم وجمع المعلومات التي تتيح السيطرة عليهم، في إطار نظام جديد في عالم ما بعد «كوفيد - 19».


هناك بالطبع نظريات أخرى، منها أن الفيروس طُور في أحد مختبرات مقاطعة ووهان الصينية، وهذه النظرية تحديدا تستخدم الآن في إطار الصراع الأمريكي – الصيني المحتدم، وقد روّج لها الرئيس دونالد ترامب، بالإشارة إلى أن الفيروس خرج من مختبر صيني، وردّت عليه بكين باتهام الولايات المتحدة أنها مصدر الفيروس وأن عملاء أمريكيين ربما نقلوه إلى ووهان التي أصبحت البؤرة التي انطلقت منها الجائحة إلى العالم.


هذه الأجواء، وبالأخص الشد والجذب بين الولايات المتحدة والصين، تثير قلق العلماء الذين يرون أنها لا تساعد الجهود الرامية لتحقيق تعاون دولي يعجل بفكّ طلاسم فيروس «كورونا المستجد»، وجمع أكبر قدر من المعلومات عنه، ما يساعد في التوصل إلى علاج وتطوير لقاح للوقاية منه. وقد كان مخيبا للآمال رفض إدارة ترامب المشاركة في القمة التي عقدت عبر الفيديو، يوم الاثنين الماضي، وشارك فيها قادة عدد من الدول والمنظمات والشخصيات، بهدف توحيد الجهود لتطوير لقاح مضاد للفيروس يستفيد منه العالم كله، وليس فقط الدول الغنية والصناعية. فالقمة تعهدت بجمع 8.2 مليار دولار من الحكومات والقطاع الخاص والأثرياء الذين يدعمون مثل هذه الجهود، والهدف تمويل الجهود العلمية وتنسيق الجهود لتطوير علاج لـ«كوفيد - 19» ولقاح ضد فيروس «كورونا المستجد»، وإنتاج الأدوية والأمصال بكميات كبيرة لفائدة كل دول العالم.


مثل هذا الجهد كان يفترض وجود أمريكا فيه، لكن إدارة ترامب تصرفت بطريقة انعزالية، باتت معهودة عنها، في ظل شعار «أمريكا أولا» الذي تتبناه، وترسخت أكثر خلال أزمة «كورونا» التي جعلتها تبدو دولة حائرة خائرة، لا تكترث لمسؤولياتها الدولية، حتى لو كان ذلك يعني تجميد مساهماتها المالية في ميزانية منظمة الصحة العالمية، أو رفض المشاركة في تنسيق دولي لمواجهة الجائحة وتطوير العلاج واللقاح المضاد. فهذه الإدارة الأمريكية تتصرف بما يوحي أنها تريد تحقيق سبق لنفسها في مساعي تطوير لقاح، وربما ترى فيه «جائزة» سياسية ومالية وانتخابية، ولا تنظر للأمر كما عبّر عنه رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون بقوله: «إن السباق لتطوير اللقاح ليس منافسة بين الدول، وإنما أهم عمل عاجل ومشترك في حياتنا المعاصرة».


العلماء بالتأكيد يرون أهمية تنسيق الجهود الدولية، والتعاون في جمع المعلومات وتحليلها لفهم الفيروس، وبالتالي تسريع وتيرة البحث عن العلاج واللقاح. فالجهود الكثيرة المبعثرة، على أهميتها، إلا أنها لا تضمن الوصول إلى لقاح مثلما حدث مع فيروسات أخرى، حتى إذا نجح أحد هذه الجهود، فإن اللقاح سيحتاج إلى تجارب لضمان فاعليته والتأكد من عدم تسببه في أعراض جانبية خطيرة.


ووفقا لمنظمة الصحة العالمية، هناك 8 لقاحات تتم تجربتها حاليا على البشر، و94 لقاحا في مرحلة التطوير. وهناك جهود أخرى لتطوير أدوية مضادة للفيروسات أو استخدام أدوية موجودة أصلا، مثل «ريمديسفير» الذي كان يستخدم في علاج الإيبولا، وذكر أنه لدى استخدامه على المصابين بـ«كورونا»، ساعد في تقليص فترة الشفاء. لكن العلماء يبقون مصرين على ضرورة الحذر في توقع الحصول على لقاح سريع، ويرون أن المسلك الصحيح هو إعطاء فترة 12 - 18 شهرا للحصول على نتائج. والطريقة الوحيدة التي ربما تساعد في تسريع الوتيرة تبدأ في نظرهم بفهم الفيروس جيدا وجمع أكبر قدر من المعلومات عنه منذ بدايته، وهو ما يحتاج إلى تعاون الصين، باعتبار أن الجائحة انطلقت منها، وإلى تعاون دولي أوسع لمعرفة كيف يتطور وتأثيراته من منظور ديموغرافي، وجيني، وعمري، ومناخي.


فما يزيد في حيرة العلماء أن الفيروس ضرب مناطق أشد مما ضرب أخرى، وأثّر على الفئات العمرية بطرق مختلفة، من دون أن يستثني أيا منها. الشباب مثلا كانوا بطبيعة الحال الأكثر مقاومة للفيروس، لكن دراسات أشارت إلى أنهم في عدد من الدول أصيبوا بأعداد كبيرة، وإن كانت الأعراض أقل. وفيما يتعلق بالتأثير على كبار السن الذين تقل مناعتهم بشكل طبيعي، فإنه حدث بطريقة متفاوتة في دول تعتبر مسنة. فاليابان التي توجد فيها أعلى نسبة من كبار السن لم تحدث فيها سوى 566 حالة وفاة، بينما إيطاليا التي يوجد فيها أعلى نسبة مسنين أوروبيا بلغ المجموع الكلي للوفيات فيها أكثر من 29 ألفا.


كذلك بالنسبة للأطفال الذين كانت المؤشرات الأولى تدل على أنهم لم يتأثروا كثيرا بـ«كوفيد - 19»، فقد ظهرت أخيرا حالات إصابة في بريطانيا وأمريكا أثارت القلق رغم محدوديتها من أن تكون هناك سلالة متحورة من «كورونا» تصيب صغار السن.


هناك عوامل أخرى يحتاج العلماء لجمع معلومات تفيدهم في جهودهم لفهم المرض، مثل تأثير العادات الاجتماعية في نقل العدوى مثل عادات التحية في دول جنوب المتوسط مثلا، مقارنة بالتحية التي لا يحدث فيها تلامس في دول آسيوية مثل الهند واليابان وتايلاند. ومن الأمور الأخرى التي تحتاج دراسة الطريقة التي انتشر فيها المرض في دول أوروبية وفي أمريكا مثلا، مقارنة بالانتشار المحدود حتى الآن في أفريقيا.


توفر المعلومات هو المفتاح لفهم هذا الفيروس، وسيساعد بالتالي جهود العلماء للتوصل إلى اللقاح الذي يتلهف له العالم. فأكثر ما يخيف العلماء أنه في غياب العلاج واللقاح، قد تحدث موجة ثانية من فيروس «كورونا المستجد» تكون أسوأ، على غرار ما حدث مع جائحة الإنفلونزا الإسبانية التي بدت وكأنها تنحسر في صيف 1918 لتعود بشكل أعنف في موجة ثانية في خريف وشتاء ذلك العام حتى ربيع 1919. هذا السيناريو ينبغي أن يضغط أيضا على الدول لتوحيد الجهود والموارد في معركة ضد أكبر خطر على البشرية، وهو «كورونا المستجد» وليس مخططات مزعومة يروّج لها دعاة نظرية المؤامرة.


(صحيفة الشرق)